نشرت مجلة The London Review of Books مقالا للروائية والمحامية سلمى دباغ، أوردت فيه عدة أشكال لانتهاكات الجيش الإسرائيلى بحق الشعب الفلسطينى فى غزة والضفة الغربية، كما تناولت المحاولات الممكنة لوضع حد لهذه الجرائم وللمضى نحو حل عادل للقضية الفلسطينية.. نعرض من المقال ما يلى:
فى الثامن من نوفمبر 2023، كان محمود مُنى، بائع كتب فى القدس، منشغلا بمدى الحيرة التى قد يواجهها المراسلون الأجانب إذا أغلقت مكتبته، من أين سيحصلون على كتبهم البسيطة والتى تمهد للصراع الفلسطينى الإسرائيلى؟
فى التاسع من فبراير 2025، قامت الشرطة الإسرائيلية بتفتيش فرعين من متاجر الكتب المملوكة لعائلة منى. دخلوا بملابس مدنية، واستخدموا برنامج جوجل للترجمة لفك رموز عناوين الكتب باللغة الإنجليزية وصادروا الصناديق المحملة بالكتب واختاروا بشكل خاص أى كتب عليها علم فلسطين. كما تُظهِر صور كاميرات المراقبة أكياس قمامة سوداء مليئة بالكتب لاستخدامها كدليل ضد عائلة منى. واعتقلت الشرطة صاحب المكتبة محمود وابن أخيه أحمد، واقتادتهما إلى مركز تحقيق سيئ السمعة فى المسكوبية فى القدس الغربية.
تم الإفراج عن أحمد ومحمود يوم 11 فبراير من الشهر الجارى بشروط، ويواجه الاثنان تهم الإخلال بالنظام العام، ومن بين الكتب التى استخدمتها النيابة العامة فى محكمة الصلح فى القدس كدليل على «التحريض» كتاب تلوين للأطفال من تأليف رسام جنوب أفريقى، ناثى نجوبانى، بعنوان «من النهر إلى البحر». تشمل الكتب المصادرة الأخرى أعمالاً لنعوم تشومسكى، وإيلان بابيه (مؤلف كتاب التطهير العرقى فى فلسطين). ووصف أحمد اعتقاله بأنه «وحشى» ويفتقر إلى الوضوح، قائلا: «أشعر بالتعب الشديد، والقلق، والتوتر». خضع الرجلان للإقامة الجبرية لمدة خمسة أيام، ويُمنعان من العودة إلى المكتبات لمدة عشرين يوما. وقد غُرِّما بمبلغ 5000 شيكل (حوالى 1100 جنيه إسترلينى).
• • •
تقول الكاتبة: تتعرض المنظمات الثقافية والسياسية الفلسطينية فى القدس الشرقية لهجوم مستمر. فى بعض الأحيان يكون ذلك بيروقراطيًا (طلب أوراق التسجيل والترخيص جنبا إلى جنب مع فرض الضرائب العقابية)؛ وفى بعض الأحيان يكون عنيفا. إذ اقتحمت الشرطة الإسرائيلية مركز يبوس الثقافى فى أغسطس 2024 أثناء عرض فيلم عن غزة، وأجبرت الجمهور على الخروج وأغلقت المبنى. وفى وقت سابق، فى أكتوبر 2022، داهمت قوات الأمن منزل مديرة المركز، رانيا إلياس، وضربت ابنها البالغ من العمر ستة عشر عامًا، شادى، حتى أغمى عليه. تم جره «حافيًا ومعصوب العينين» واحتجازه، حيث تعرض للتعذيب، لمدة 41 يومًا.
كما شرد الجيش الإسرائيلى بالقوة أكثر من 26 ألف شخص فى الضفة الغربية خلال أسبوعين. ووفقا لمسئولى الأمم المتحدة، فقد تم «إخلاء» مخيم جنين للاجئين، الذى كانت الكثافة السكانية فيه 57712 شخصا لكل كيلومتر مربع فى عام 2023، والذين يقدرون أن 80% من سكان مخيم طولكرم للاجئين قد أجبروا على الرحيل أيضا. كما تعرضت نابلس للقصف. ودُمر أكثر من عشرين مبنى فى جنين، وحوصرت مستشفاها وهدمت طرقها بالجرافات. كما ظهرت لقطات من قلقيلية تظهر رجالاً يسيرون على الطريق، تم تجريدهم من ملابسهم ما عدا الملابس الداخلية، وقيدوا معا. كذلك تشير التقارير إلى مقتل أكثر من 66 شخصا فى الضفة الغربية منذ بداية العام، وقد كتبت مجموعة من المنظمات غير الحكومية إلى الحكومة البريطانية مطالبة باتخاذ إجراءات لتهدئة العنف.
وفى تقرير أصدرته منظمة «أنقذوا الأطفال» برام الله فى 7 فبراير الجارى، جاء فيه: ما يقرب من نصف الأطفال الفلسطينيين الذين قتلتهم القوات الإسرائيلية أو المستوطنون فى الضفة الغربية المحتلة منذ بدء التسجيل، قُتلوا خلال العامين الماضيين.
وحتى إذا كان القصف الجوى الإسرائيلى على غزة قد خفتت حدته، لكنه لم يتوقف؛ كما لم يتوقف قتل الفلسطينيين بوسائل أخرى. فقد قُتِل أكثر من مائة شخص منذ وقف إطلاق النار بنيران المدافع وقذائف الدبابات.
• • •
يقول عاطف الشاعر- محاضر فى الأدب العربى بجامعة وستمنستر- هُجِّرت عائلته قسرا إلى خان يونس عندما هاجمت إسرائيل رفح فى مايو 2024: عائلتى تبعد كيلومترا واحدا عن رفح فى خان يونس. وكل من يقترب من الحدود بين مصر وغزة يتعرض لإطلاق النار. إنهم لم يستفيدوا حقا من وقف إطلاق النار باستثناء أنه أصبح أكثر هدوءا، وأقل عددا من الناس يُقتَلون، وهو أمر جيد. ولكن فيما يتعلق بالقدرة على العودة إلى منازلهم، فهذا غير ممكن. حاول ابن أخى العودة، لكن الدبابات كانت تطلق النار فى كل مكان. اختبأ فى مبنى مدمر جزئيا وكان بخير، لكن لم يحاول أحد العودة منذ ذلك الحين. حاول قريب آخر العودة إلى رفح، قبل أسبوع ونصف، فقُتل..
يضيف الشاعر: فيما يتعلق بالحياة اليومية، فإن الجانب الأكثر قسوة بالنسبة لعائلتى هو أن الرياح أطاحت بخيمتهم عدة مرات. وينتهى بهم الأمر بالركض كالمجانين فى محاولة للعثور على مكان يغطون فيه أنفسهم. إنه أمر صعب على الأطفال. الظروف الجوية صعبة. لا يزال كل شىء باهظ الثمن. لقد انخفضت الأسعار منذ وقف إطلاق النار، ولكنها لم تعد كما كانت من قبل..
ويستكمل: بعض أصدقاء أخى الذين عادوا إلى الشمال يقولون إنه لا يوجد شىء يعودون إليه، لذا احتفظوا بجزء من أفراد أسرتهم فى الجنوب بخيامهم كخيار احتياطى. ولا يزال هناك عدد قليل من المنازل التى لا تزال بها مياه جارية. هناك أشخاص يسلمون المياه فى خزانات، وأحيانًا يتقاضون رسومًا مقابل ذلك، وأحيانًا مجانية من خلال الجمعيات الخيرية. لقد كان من المدهش أن نسمع عن أشخاص يعيدون بناء الآبار وإصلاح الأنابيب. وبالنسبة للأسر الفقيرة، الأمر صعب للغاية. إذا لم يكن لديك شخص فى الخارج يعولك، فإن فرصك فى كسب لقمة العيش محدودة للغاية. ظروف المعيشة سيئة للغاية. هناك الكثير من الاعتماد على الآخرين. فى الآونة الأخيرة، أصبح من الصعب الحصول على المال. إنه أمر مرعب بالنسبة لى حيث نحاول إعالة ثلاث عائلات. قد يصل الأمر إلى النقطة التى لا نستطيع فيها تسليم المال على الإطلاق.
• • •
تختتم الكاتبة مقالها: سحب النواب الهولنديين دعوة إلى المقررة الخاصة للأمم المتحدة فرانسيسكا ألبانيزى للتحدث إليهم، كما أطلق دونالد ترامب العنان للوحشية والجنون الإسرائيلى.
فى ضوء هذه التطورات، تعتبر المبادرة الثلاثية التى أطلقتها فى لاهاى تسع دول جاءت فى الوقت المناسب، إذ تهدف هذه المبادرة إلى معالجة إخفاقات القانون الدولى والحاجة إلى العمل الجماعى ضد الظلم فى فلسطين، كما تلتزم بمحاسبة إسرائيل على اعتداءاتها على الوجود الجماعى الفلسطينى. وتعد الالتزامات التى حددتها الدول التى أطلقت هذا الجهد جزءًا من الالتزامات الأكثر جوهرية التى تقع على عاتق جميع الدول بموجب القانون الدولى فى ضوء جرائم إسرائيل الطويلة الأمد فى الأراضى الفلسطينية المحتلة. وتشكل هذه التدابير خطوة أولى أساسية نحو حل قضية فلسطين، أو «الصراع الإسرائيلى الفلسطينى»، بما يتماشى مع القانون الدولى.