حظيت الأسبوع الماضى بدعوة لحضور مسرحية غنائية بعنوان «الميلاد» على مسرح قصر النيل بوسط القاهرة، من إخراج الشابة الموهوبة رينا أندراوس، وإنتاج هيئة الخدمة الروحية وتدريب القادة بمصر، بالاشتراك مع الشركة الخاصة التى أسسها المؤلف والملحن والموزع الموسيقى إبراهيم موريس قبل ثمانى سنوات. المسرحية تدور كما يشير العنوان حول قصة ميلاد المسيح عليه السلام بحسب ما ورد فى إنجيلى متى ولوقا، وتنتهى برحلة العائلة المقدسة إلى مصر وهروبها من بيت لحم فى فلسطين، بسبب اضطهاد هيرودس، ملك اليهود، الذى أراد أن يقتل المسيح، قلقا من احتمال أن يفقد عرشه.
كان الملك مشكوكا فى شرعيته، رغم بسط نفوذه من هضبة الجولان شمالا إلى البحر الميت جنوبا. لفت بعض المجوس نظره إلى ميلاد يسوع لذا أمر بذبح كل مواليد بيت لحم، فيما جاء الملاك إلى يوسف النجار وقال له قم وخذ الصبى وأمه واذهب إلى مصر. وبالتالى كان مسار العائلة المقدسة كما نعرفه اليوم عبر الهضاب والصحارى، وكما وصفته المسرحية من خلال الغناء والصور التى ظهرت على الشاشة الكبيرة فى خلفية المسرح لتجسيد تفاصيل الرحلة بألوان زاهية تشع نورا. وهنا يجدر بى الإشادة بالإضاءة والديكور ومشاهد الشاشة وهندسة وتصميم الصوت، فبدون هذه العناصر لما كان العرض سيظهر بهذا المستوى المتميز الذى ساهم فى نقل المحتوى من الحيز الدينى إلى الحيز الفنى.
• • •
تشارك كلٌ من إبراهيم موريس وداليا فريد فى الكتابة والتلحين، وقد سبق أن تعاونا معًا فى مسرحية غنائية أخرى بعنوان «ليلة» لاقت نجاحًا كبيرًا عند تقديمها عام 2017، فالأول مسكون برغبة عارمة فى إحياء المسرح الغنائى بمصر والثانية مغنية متخصصة فى علم نفس الموسيقى، قدمت من قبل عدة ترانيم بمناسبة عيد الميلاد المجيد إلى جانب أعمالها المتنوعة.
النص مكتوب ومعد فى الأصل للغناء الجماعى والفردى، والموسيقى ليست مكونا ثانويا أو إضافيا، بل تعتمد عليها بالكامل البنية الدرامية. ولكن الموسيقى هنا لا تشبه الترانيم والتراتيل التقليدية أو المزيج المشرقى الضخم من الألحان الكنسية الذى صار يُعرف بالألحان البيزنطية التى تشبعت تدريجيا بالمقامات الشرقية وتلك التى كانت رائجة فى إسطنبول العثمانية. كما لا تشبه تماما الموروث السريانى ــ المارونى وألحان الأخوين رحبانى التى تغنت بها السيدة فيروز فى أعياد القيامة والميلاد، وأصبحت جزءًا من احتفالات الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية على حد سواء.
تخطت فيروز بصوتها الملائكى وإحساسها المرهف ودقة أدائها المقتصد جدا فيما يتعلق بالحليات الشرقية كل الحواجز الدينية والقومية دون تردد، مع الاحتفاظ بطابعها وأسلوبها الخاص الذى يحمل روح بلادها وتراث المنطقة التى تنتمى إليها. أما ألحان مسرحية «الميلاد» فقد جاءت على نمط الموسيقى الكنسية العالمية أو بالأحرى المعولمة، فهناك نوع من التوحيد المعيارى طرأ مع الوقت على الموسيقى الكنسية التى ما زالت تحتفظ بمكانتها خلال الطقوس العبادية، وينطبق ذلك على مصر كما سائر البلدان الأخرى. وبالتالى مزج العرض أنواعًا مختلفة من الموسيقى الكلاسيكية والباروك وبعض ملامح البوب والروك، بحسب المواقف الدرامية، إضافة إلى الغناء الغربى البسيط والترانيم الجريجورية.
هذه الأخيرة تعد هى بداية «عولمة» الموسيقى الكنسية ونشر نمط معين للغناء فى مختلف كنائس العالم، على يد بابا الفاتيكان جريجوى الأول الملقب بالعظيم (590-604)، الذى كان دبلوماسيا وكاتبا ومن أول البابوات ذوى الخلفية الرهبانية. وكان هو أيضا من أدخل التدوين وقراءة النوت والصولفيج على الألحان الكنسية التى أراد لها أن تتقارب وتتوحد فى كل أصقاع العالم، على اختلاف الثقافات والأجناس، فلا تُترك لهوى ومزاج الشعوب. لذا قيل إن الترانيم الجريجورية ساهمت فى بناء أوروبا المسيحية التى رددت مزامير متشابهة بسبب جهوده الرامية إلى توحيد الصفوف وبعثه لمتخصصين يُعلمون الناس هذا النمط من الغناء.
• • •
فطِن جريجورى الأول إلى أهمية دور الغناء والفن عموما فى التعبد والتواصل مع الإله عبر العصور، وفهم أن أغلب موسيقى الشعوب خرجت من معابدها واستعملتها للتعبير عن الفرح والحزن والحشد والتربية والوعظ، إلى ما غير ذلك. ورغب فى حسن توظيف هذه القوة لصالح أوروبا والدعوة، فالدبلوماسى المتمرس عرف أن الإمبراطوريات الكبرى استطاعات أن تنشر ثقافتها الموسيقية تبعا لمكانتها بين الأمم. السلم الموسيقى الخماسى مثلا انتشر فى دول آسيا مع تسيد الصين، كذلك شاع «الربع تون الشرقى» والحليات النغمية الفارسية مع الفتوحات الإسلامية، ثم ذاع صيت الموسيقى الباروكية مع تطور الطرق الملاحية ونشاط البحارة والمستكشفين الإسبان والبرتغاليين.
وبما أننا فى المرحلة الثالثة من العولمة، على حد تصنيف بعض المتخصصين، التى تشهد عولمة الأفراد، فقد جاء العرض وموسيقاه على غرار ما يمكن أن نشاهده على مسارح العالم فى مثل هذا الوقت من السنة. واعتلت المواهب خشبة مسرح قصر النيل وأدهشونا بهذا العدد الكبير من أصحاب الأصوات الحلوة المدربة والحضور الجميل: إيهاب شاوى فى دور يوسف النجار، وميريتيا عماد فى دور السيدة مريم العذراء، وإبراهيم موريس فى دور هيرودس، وغيرهم من المبدعين الذين تم انتقاؤهم بعناية بعد جلسات اختبار وتدريب. أصوات حلوة رددت فى النهاية «مبارك شعبى مصر»، كما جاء فى سفر إشعياء. كل عام ونحن جميعا بخير وسلام.