لم يرد عام 2024 أن ينقضى دون أن يطرح على منطقة الشرق الأوسط وقائع ومتغيرات ومعادلات جديدة، كان أبرزها على الساحة السورية تولى نظام حكم جديد محل النظام المنقضى الذى رحل بسياساته وتحالفاته، تاركًا دولة مثل سورية فى تقاطع طرق حرج بظروفها وموضعها الجيوسياسى الصعب.
• • •
للأسف فقد استغلت إسرائيل الأحداث فى سورية بأقصى درجة من الخباثة والغدر، وفى ذات اليوم والساعة التى دخلت فيها قوات المعارضة المسلحة إلى دمشق، قامت القوات الإسرائيلية باحتلال المنطقة العازلة لمرتفعات الجولان السورية، مستولية على 365 كم2 منها ومحكمة السيطرة بذلك على جبل الشيخ.
حققت إسرائيل بفعلتها هذه مكسبًا استراتيجيًا بالغًا فالسيطرة على قمة جبل الشيخ تحقق لها أفضلية استراتيجية للاستطلاع والرصد الرادارى والنيرانى على ريف دمشق والقنيطرة ودرعا، وتكون بذلك قد وضعت العاصمة دمشق تحت السيطرة النيرانية الإسرائيلية، وبما يضع القوات الإسرائيلية على مسافة نصف ساعة من قلب دمشق.
من جهة أخرى وباعتبار أن جبل الشيخ هو المنبع الرئيسى لنهر الأردن فإن إسرائيل بذلك تكون قد أحكمت قبضتها على منابع نهر الأردن، لتحقق خطوة كبرى فى استراتيجيتها المائية، والتى تتضمن أيضًا التحكم فى منابع نهر اليرموك والسيطرة عليها، والخطط الإسرائيلية جاهزة ومعدة سلفًا لكنها فقط تنتظر اللحظة المناسبة للتنفيذ.
خروج رئيس وزراء الكيان الصهيونى ليعلن أن هضبة الجولان السورية ستظل إسرائيلية إلى الأبد، وتواصل استيلاء القوات الاسرائيلية يومًا بعد يوم على المزيد من البلدات والقرى السورية فى الجولان والقنيطرة، قابله التنديد البيانى المعتاد من الحكومات العربية بعد كل عدوان إسرائيلى، وغياب أى رد فعل أو تحرك عربى فعال يجعل إسرائيل تتراجع عما أقدمت عليه، وهذا ما قدرته الحسابات الإسرائيلية فباتت تفعل ما تفعل.
استيلاء إسرائيل بالكامل على هضبة الجولان السورية، جاء بمباركة أمريكية مسبقة جاءت فى عهد الرئيس ترامب باعترافه بضم إسرائيل للجولان أثناء فترة رئاسته الأولى، وها هو ترامب سيعود فى يناير القادم بالمزيد من التأييد والدعم للأطماع الإسرائيلية، مع احتمال مؤكد بإعادته طرح خطة القرن بشكل جديد يتفق مع الوقائع الجديدة التى فرضتها إسرائيل.
وما يضيف إلى هول المأساة السورية، هو قيام القوات الجوية الإسرائيلية منذ 8 ديسمبر الجارى وإلى اليوم باستهداف وتدمير أكثر من 600 هدف استراتيجى وعسكرى فى كافة أنحاء سورية، لتقضى على البقية الباقية من قدرات الجيش السورى ومنشآته وقواعده، فى عدوان غاشم تجاوز بمراحل عدوان 5 يونيو 1967.
لذلك يبدو أن الوضع المتردى الراهن فى المنطقة وضع إسرائيل فى حالة من غطرسة القـوة، ومن المؤكد أنها ستدفعها فى قادم الأيام للتحرك نحو المزيد من العدوان والتغـــول فى المنطقة.
• • •
فى لبنان ورغم الهدنة الهشة، لا يجب نسيان أن الكيان الصهيونى المعتدى دوما على لبنان والمنتهك لسيادته ما زال يحتل 13 منطقة داخل لبنان بعد الخط الأزرق مساحتها الإجمالية 485 كم2 وأنه ارتكب اعتداءات وخروقات لسيادة لبنان بلغت أكثر من 32 ألف اعتداء واختراق وغارة منذ عام 2006.
وبعد انقطاع حلقات سلسلة محور المقاومة بعد خروج سوريا من المعادلة، وقبلها كان تمكن إسرائيل من اغتيال الصف الأول من قادة حزب الله وتدمير 75% من قدراته، لا نستبعد قيام إسرائيل فى المرحلة القادمة بتدبير أى ذريعة لاجتياح جنوب لبنان بالكامل والاستيلاء على كامل الأراضى اللبنانية جنوب نهر الليطانى بأراضيها الخصبة ومصادر مياهها الوافــرة والتى كانت على الدوام مطمعا لها.
عسكريا، سيتيح ذلك لإسرائيل عدم تمكين حزب الله من استخدام صواريخ قادر وفاتح والمسيرات الجوية التى تفوقت على منظومة القبة الحديدية، وبذلك سيتم إخراج تلك الصواريخ عن مدى رمايتها وإبطال دورها وفاعليتها القتالية فى أى مواجهة قادمة لإسرائيل ضد حزب الله، فتكون بذلك قد أقامت منطقة عازلة لتأمين مستعمراتها فى شمال فلسطين.
• • •
فى الضفة الغربية والقدس المحتلة، حيث تقوم اسرائيل يوميا بتمزيق أوصال الأراضى الفلسطينية وتعزيز الاستيطان الصهيونى فيها، ومع توقع شبه مؤكد بإعلان إسرائيل عن ضم الضفة الغربية بمجرد استلام الرئيس ترامب الحكم فى الولايات المتحدة، يتوقع قيامها بعد ذلك بعمليات مداهمة وهجمات وحشية على المدن والبلدات الفلسطينية بحجة اجتثاث ما تطلق عليه الجماعات الإرهابية.
فى ظل المقاومة الفلسطينية المتوقعة واشتعال الموقف يتوقع أن تقوم إسرائيل بتنفيذ ضربات عسكرية وحشية واجتياح شامل يقوم على أثره فلسطينيو الضفة الغربية بالنزوح شرقا إلى الأردن للفرار بأرواحهم، ولن يكون أمام الأردن سوى الرضوخ للأمر الواقع واستقبالهم، فتكون خطة إخلاء الضفة الغربية قد وضعت موضع التنفيذ.
أما قطاع غـــزة، فتقوم إسرائيل الآن بتقطيع أوصاله وتدمير كل مقدرات الحياة فيه، باعتبار أن تنفيذ سيناريو تهجير الفلسطينيين والفلسطينيات منه إلى سيناء قد يؤدى للدخول بها فى صدام خطير لا لزوم له فى الوقت الراهن مع مصر.
• • •
هذه السيناريوهات المحتملة إذا حدث أى منها فقد تؤدى إلى اشتعال الشرق الأوسط بأكمله، فالدول العربية التى قدمت كل ما فى وسعها من أجل حل عادل ومشرف للقضية الفلسطينية، واتخذت من السلام اختيارا استراتيجيا، باتت اليوم تدرك أن الطرف الآخر يسير فى الاتجاه المعاكس، ويضرب أى أمل لتحقق ذلك السلام فى مقتل.
وما حدث من قصف وحشى على العــــزل المدنيين فى قطاع غــــزة واستشهاد 45 ألف وجرح وإصابة قرابة ربع مليون فلسطينى وفلسطينية، وقصف واحتلال الأراضى السورية واللبنانية، جعل الشعوب العربية تتأكد من حقيقة إسرائيل الدموية، وبأنها كيان صهيونى عدوانى توسعى.
ومن جهة أخرى فما تقوم به إسرائيل بات محل اشمئزاز شديد من كل الحكومات العربية، أما الشعوب العربية فهى فى حالة عارمة من الغضب من الجرائم الإسرائيلية التى تجاوزت كل الحدود فى الوحشية والعدوانية تجاه فلسطين ولبنان وسوريا.
على إسرائيل أن تدرك أنها لن تفوز بما فعلت وتفعل، فلا سلام سيتحقق لإسرائيل دون إعادة حقوق الشعب الفلسطينى، ولا سلام دون إعادة الجولان لسوريا، ولا سلام دون إعادة الأراضى اللبنانية.
الصبر العربى على جرائم إسرائيل يكاد ينفد، وعلى إسرائيل إدراك أن الحكومات العربية ستكون مضطرة للجوء إلى بدائل واختيارات أخرى، ووقتها سيكون لكل حدث حديث.