يبدو أن الأمور باتت تتجه نحو مراحلها الختامية من الحرب الروسية الأوكرانية، والفصل الأخير من حكم زيلنيسكى ومجموعته التى تقود أوكرانيا اليوم إلى كارثة مروعة بكل المعايير الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، فمنذ اعتلائهم سدة الحكم ضرب هؤلاء عرض الحائط بكل اعتبارات الأصل المشترك والقيم المتوارثة والتاريخ الممتد الذى يجمع الأمتين الروسية والأوكرانية، فقاموا بتدمير الجسور السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والدينية والمذهبية بين البلدين، وكان ذلك نقطة البداية لما وصلت إليه الأمور اليوم بين روسيا وأوكرانيا.
ثم كانت السياسات الحمقاء التى مارستها حكومة زيلينيسكى تجاه المقاطعات الشرقية من أوكرانيا وسكانها من ذوى الأصول الروسية، والاعتداءات الوحشية عليهم وتعريضهم لهجمات المتطرفين القوميين الأوكرانيين، والتى أخذت العلاقات مع روسيا إلى ذلك المنعطف الحاد من التوتر والصراع، واضطرت روسيا إلى التدخل لحمايتهم ومساندة توجهاتهم الاستقلالية ورغبتهم فى الانضمام لروسيا، وهو ما أدى فى النهاية إلى اعتراف روسيا بجمهوريتى لوجانسك ودونيتسك.
ثم جاء التوجه الأوكرانى بالارتماء الكامل فى أحضان الغرب، وإعلان رغبة أوكرانيا للانضمام للاتحاد الأوروبى، ثم مطلبها الانضمام كدولة عضو فى حلف شمال الأطلنطى، وهو المطلب الأخطر والذى وصل بالأمور إلى نقطة اللا عودة وجعل الحرب هى الملاذ الأخير.
حلف الأطلنطى اعتبر ذلك المطلب فرصة كبرى لتعزيز مركزه الجيوسياسى فى مواجهة روسيا، بعد أن نجح طوال العقود الثلاثة الأخيرة فى ضم معظم دول شرق ووسط أوروبا مثل بولندا ورومانيا وهنغاريا وسلوفاكيا وبلغاريا، وجعلها تتمتع بالعضوية الكاملة فى الاتحاد الأوروبى وحلف شمال الأطلنطى، وترسيخ انتماء هذه الدول للمنظومة الغربية الأطلسية سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا فى مواجهة روسيا.
من جهتها اعتبرت روسيا أن المطالب الأوكرانية بالانضمام للحلف هى بمثابة تهديد مباشر لدائرة أمنها الاستراتيجى وتجاوز لكل الاعتبارات والخطوط الحمراء، وهو ما يعنى أن أوكرانيا بذلك تستقدم حلف شمال الأطلنطى بترسانته وصواريخه وقدراته القتالية ليرابط ويتمركز مباشرة على الحدود الروسية، وهو تهديد وجودى خطير لم ولن تقبل به روسيا مهما حدث ومهما كلفها الأمر للتصدى له.
هذه التوجهات الأوكرانية والغربية دفعت روسيا دفعًا لاستنفار قدراتها، لدرجة أن الرئيس بوتين ذهب إلى مدى بعيد من الحدة عندما قال إن فكرة الدولة الأوكرانية بحد ذاتها هى مجرد وهم، وأن أوكرانيا هى من صنع لينين زعيم الثورة البلشفية الذى منحها عن طريق الخطأ إحساسًا بالدولة من خلال السماح لها بالاستقلال الذاتى داخل الدولة السوفييتية، الأمر الذى أقام كيان أوكرانيا على حساب الأراضى الروسية وتقسيم أراضى روسيا التاريخية وتمزيقها.
• • •
الولايات المتحدة والدول الغربية نظرت للأمر على أنه فرصة تاريخية واستراتيجية غير مسبوقة لتوسيع نطاق دائرة حلف الأطلنطى لتمتد من فنلندا والسويد شمالًا إلى أوكرانيا وجورجيا وتركيا جنوبا، فسارعت بضخ دعم عسكرى واقتصادى ضخم لأوكرانيا على أمل أن تتمكن من خلال الحرب من كسر الإرادة الروسية ودفعها إلى القبول بالأمر، وفى ذات الوقت بأن تكون تلك الحرب بمثابة استنزاف ثقيل للقدرات العسكرية والاقتصادية الروسية.
وقد يبدو الأمر فى ظاهره مساعدات أمريكية غربية سخية لأوكرانيا، لكن حقيقة الأمر تتجلى فى ثمن باهظ دفعته أوكرانيا يضاف إلى التدمير والخسائر التى لحقت ببنيتها الأساسية واقتصادها، وهو ثمن سيدفعه الأوكرانيون الحاليون والأجيال القادمة منهم، وهو أن أكثر من نصف الأراضى الزراعية الأوكرانية قد باتت اليوم فى قبضة صناديق الاستثمار الأمريكية والغربية.
فشركات كارجيل وديبون ومونسانتو هى شركات ألمانية وأسترالية إلا أنها فى الأساس شركات أمريكية وفق ملكيتها الحقيقية، وهى اليوم تملك معًا أكثر من 1.7 مليون هكتار من الأراضى الأوكرانية الخصبة بموجب القانون الذى شرعته حكومة زيلنيسكى فى يونيو 2021، ليسيطر بذلك رأس المال الأمريكى على جزء كبير من أخصب الأراضى الزراعية الأوكرانية التى تعد سلة غذاء العالم، حيث تنتج أوكرانيا 46% من إجمالى إنتاج زيت عباد الشمس، 9% من القمح، 17% من الشعير و12% من الذرة على مستوى العالم.
• • •
الثمن الباهظ الذى دفعته أوكرانيا لا ولن يقتصر على ذلك، فالرئيس الأمريكى ترامب يطبق اليوم بحدة بالغة المنطق التجارى فى السياسة الخارجية الأمريكية، ومن وجهة نظره أن أوكرانيا التى حصلت من الولايات المتحدة على مساعدات عسكرية واقتصادية تقارب 500 مليار دولار، قد بات عليها اليوم أن تدفع مقابلها.
اللحظة مواتية تمامًا لتحقيق الرئيس ترامب أقصى استفادة من الموقف الحرج الذى تعيشه أوكرانيا اليوم، فالقوات الأوكرانية تعتمد اعتمادًا كاملًا على الإمدادات الأمريكية والغربية من السلاح، وهى اليوم فى حالة من الإجهاد والاستنزاف الشديد، كما أن الأوضاع العسكرية والاقتصادية المنهارة فى أوكرانيا لا تتيح مجالًا كبيرًا للمناورة أمام المطالب الأمريكية رغم وجود المساعدات الأوروبية.
لذلك لم يضيع الرئيس ترامب الوقت فى المقدمات الدبلوماسية، فاستغل زيارة زيلينسكى له فى البيت الأبيض وأمره بتوقيع اتفاقية إطارية تتيح للولايات المتحدة استغلال موارد أوكرانيا من المعادن الاستراتيجية والنادرة، وذلك فى مقابل ما حصلت عليه أوكرانيا من مساعدات أمريكية، مبررًا مطلبه بأنه من خلال الاستثمار الأمريكى المشترك فى موارد أوكرانيا، فإن الولايات المتحدة ستبقى معنية بضمان الأمن والاستقرار فى أوكرانيا.
الموارد الأوكرانية التى تستهدفها الولايات المتحدة تتضمن مخزونات كبيرة من العناصر الأرضية النادرة التى تحتاجها الولايات المتحدة، مثل اللانثانوم والسيريوم، والنيوديميوم، والإربيوم والإيتريوم والسكانديوم والليثيوم والتيتانيوم والجرافيت والفلوريت والنيكل والكوبالت والجاليوم والزركونيوم والبريليوم واليورانيوم، فضلًا عن احتياطات ضخمة من الحديد والمنجنيز والنحاس والرصاص والزنك والفضة.
• • •
المفاجأة المروعة عصفت بزيلنيسكى ومن معه، أفقدته أعصابه وجعلته يدخل فى سجال علنى حاد فى مواجهة الرئيس ترامب الذى تحدث معه بأسلوب قاسٍ وعنيف لا يخلو من الإهانة والتقريع فى لقاء انتهى بشبه طرد لزيلينسكى من البيت الأبيض.
ومع تذكر أن الرئيس ترامب كان قد أعلن أن مطلب أوكرانيا الانضمام إلى حلف شمال الأطلنطى هو مطلب غير واقعى، وأن على أوكرانيا التنازل عن جزء من أراضيها للوصول إلى تسوية مع روسيا، وفى ظل كل تلك المصائب والكوارث يبدو من مجمل الصورة أن العالم سيشهد قريبًا الفصل الأخير من المأساة الأوكرانية.
أستاذ ومستشار الاقتصاد الدولى واللوجيستيات