نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا لعالم الاجتماع التونسى، محمود الذوادى، تناول فيه مجموعة من العوامل التى تجعل العلاقة بين مجموعة من الأفراد وبين لغتهم علاقة سليمة. كما شرح كيف تتفرد لغة الضاد عن غيرها من اللغات الأخرى فى الغرب؛ كالإنجليزية والألمانية والفرنسية... نعرض من المقال ما يلى:
اللغات ظاهرة بشرية ضرورية للمجموعات والمجتمعات الإنسانية، أى إن وجود الناس فى مجموعات، شخصيْن أو أكثر، لا يتم إلا بوجود لغة أو أكثر يتخاطبون بها فى حياتهم الاجتماعية. فاللغة ظاهرة بشرية أصيلة لا يتمّ من دونها الوجود الجماعى لبنى البشر فى أشكاله الصغيرة والكبيرة (العائلات والقبائل والمجتمعات والأمم). يطرح هذا المقال أمريْن: بنود ميثاق الظاهرة اللغوية الذى يجعل العلاقة سليمة معها، ثمّ يُقارن اللغةَ العربية بثلاث لغات أجنبية على مستويات متعددة.
يجوز القول إن ما نطرحه هنا هو إطار فكرى يرتكز على أبجدية بسيطة لإقامة الناس لعلاقة طبيعية/سليمة مع لغاتهم. تؤكِّد هذه الأبجدية أن العلاقة الطبيعية/السليمة بين الناس ولغاتهم فى مجتمعاتهم تتمثل فى ميثاق ذى أربعة بنود:
1- استعمالهم لها فى الحديث فقط؛ 2- استعمالهم لها فى الكتابة فقط؛
3- المعرفة الوافية باللغة والمتمثلة فى معرفة مفرداتها والإلمام بقواعدها النحويّة والصرفيّة والإملائيّة وغيرها. يمثّل هذا السلوك اللغوى الشفوى والكتابى الأرضية الأساسية السليمة التى يُقيم بواسطتها الأفراد والمجتمعات علاقة سليمة مع لغات الأم أو اللغة الوطنية؛ 4- تنشأ عن هذه العلاقة السليمة مع اللغات ما نسميه «العلاقة الحميمة» مع تلك اللغات والتى تتجلى أساسا فى المواصفات النفسية والسلوكية التالية: حب للغة والغيرة عليها والدفاع عنها والاعتزاز بها قبل أى لغة أو لغات أخرى يمكن أن يتعلّمها الأفراد فى مجتمعاتهم أو خارجها.
بناء على تلك البنود الأربعة يسهل التعرف إلى نوعية العلاقة التى يمارسها الناس والمجتمعات مع لغاتهم. فالذين يلبون بالكامل تلك البنود مع لغاتهم هُم قوم يتمتعون بعلاقة سليمة معها. أما الذين لا يلبونها، فهم أصناف متنوعة بحسب مدى تلبيتهم لأى عدد من البنود الأربعة فى التعامل مع لغاتهم.
• • •
لدى القيام بمقارنة تحليلية بين اللغة العربية وثلاث لغات أخرى غربية من خلال بعض المعالم التى تختلف فيها لغة الضاد عن اللغات التالية: الإنجليزية والفرنسية والألمانية، تبرز خريطة للمعالم التى تنفرد فيها اللغة العربية عن تلك اللغات.
أولا: الجمع فى اللغات الأربع، يبدأ جمع الأسماء والنعوت والأفعال والضمائر فى اللغات الألمانية والفرنسية والإنجليزية من العدد 2، بينما لا تبدأ صيغة الجمع فى اللغة العربيّة إلا فى العدد 3 وما بعده، لأن للغة الضاد صيغة المُثنى المفقودة فى تلك اللغات. ومن ثم، فالتعبير عن اثنيْن فيها يتم بكتابة 2 أو بالحروف أمام الأسماء. وهكذا، فاللغة العربية تتمتع برصيد بنيوى للتعبير بدقة تلقائية عن الأشياء المزدوجة من دون استعمال رقم 2 أو بكتابة اثنيْن. إذن، يمثل العدد 3 فى لغة الضاد بداية «الكثير». ومنه، فالواحد والاثنان قليلان. أما ثلاثة فكثير فى اللغة العربية. فالعدد 1 هو مفرد ويتمتع بقواعده الخاصة به. وكذلك الأمر بالنسبة إلى العدد 2 الذى له قواعده الخاصة به والمتمثلة فى «المُثنّى». ومع العدد 3 تتغير قواعد اللغة العربية لتبدأ صيغة الجمع الخاصة بـ«كثير». ثم يقع تبنى الاتجاه المعاكس فى تذكير الأعداد وتأنيثها فنقول رأيت ثلاث نساء وتحدثت مع أربعة رجال.
ثانيا: ألغاز العدد ثلاثة، فالمكانة الخاصة البارزة للعدد ثلاثة فى لغة الضادّ تَجد ما يشابهها فى ميادين أخرى. ففى علم المسطحات، لا يمكن تحديد أية مساحة من دون ثلاث نقاط على الأقل. كما لا يمكن قياس أى حجْم من دون معرفة ثلاثة أبعاد: العرض والطول والارتفاع. وبسبب أهمية العدد ثلاثة، فإنه يحضر فى أشياء لا حصر لها على وجه الأرض، ومنها الطبيعة البشرية الثلاثية الأبعاد: الجسد والروح والرموز الثقافية (اللغة والفكر والدين والمعرفة والعلم والقيم والأعراف الثقافية). ويتجلى أيضا الحضور الكبير للعدد 3 فى دنيا الناس فى الأمثلة المختارة التالية: فلكى يُعبّر البشر عن تأكيدهم على أمر ما نسمعهم يكرّرون كلمة ما ثلاث مرات أخرى، مثل كفى كفى كفى أو لا لا لا. وتصدق أهمية العدد ثلاثة على أنماط السلطات فى الكثير من المجتمعات: السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية. وتولى فلسفة التاريخ أهمية كبرى للعدد 3 فى تحليلها لأسباب أحداثِ تطوّر تاريخ الشعوب. فطالما يقسم المؤرّخون تاريخ كل حضارة إلى ثلاث مراحل: التخلّف والنهضة والانحطاط. وانطلاقا من هذه الرؤية حلّل ابن خلدون فى مقدمته مسيرة المجتمعات الإسلامية العربية. فتوالى العصبيات على الحكم يحدث فى القاعدة العامة كل ثلاثة أجيال حيث فسّر ظهور العصبيات وتلاشيها إلى الشّدة التى يحتاجها الجيل الأول ليتمكن من الحكم، لكن ما يتبع ذلك لاحقا من رخاء يؤدى إلى الترهّل وتراخى قبضة الحكم ومن ثم زوال العصبية والسقوط.
ثالثا: البنية الحرفية الاقتصادية للعربية، تتكوّن اللغات الأربع موضوع هذا المقال من حروف وحركات. فعلى سبيل المثال، تستعمل لغة الضاد أربع حركات، وهى الفتحة والضمة والكسرة والسكون، بينما نجد فى اللغة الفرنسية، مثلا، عددا أكبر من الحركات. ونظرا لأن هذه الأخيرة فى اللغات الغربية الثلاث هى حروف وحركات فى الوقت نفسه، فإنها جزء واجب الوجود فى بنية الكلمات فى هذه اللغات. أما فى اللغة العربية، فالحركات ليست حروفا ومن ثم فهى صاحبة وظيفة واحدة تتمثل فى التمكين من نطق الحروف والكلمات. وعلى هذا الأساس يمكن الاستغناء عن كتابة الحركات فى كلمات اللغة العربيّة. تقود هذه الخصائص فى لغة القرآن إلى القول إنها لغة تتمتع كتابة كلماتها باقتصاد فى حروفها يتفوّق على عدد الحروف فى كلمات اللغات الألمانية والفرنسية والإنجليزية. ويعود ذلك إلى أن وجود حركات لغة الضاد فى كلماتها ليس بالأمر الضرورى والحتمى فى بِنيتها.
• • •
ثمة إذا اختلافات بين هذه اللغات الأربع عند القراءة. فالشخص القارئ للغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية يمكنه أن يقوم بقراءة سليمة وصحيحة لكلماتها وجملها متى عرف حروفها وكيفية استعمال حركاتها بغض النظر عن مستواه التعليمى والثقافى وعن فَهْمه لما هو بصدد قراءته.
أما فى لغة الضاد الخالية من الحركات (أى غير المشكولة)، فشروط القراءة السليمة لكلماتها وجملها تتطلّب من القارئ/القارئة ضرورة فهْم ما هو بصدد قراءته؛ إذ من دون عملية الفهم هذه لا يستطيع من يقرأ أن يقوم بقراءة سليمة وفقا لقواعد النحو والصرف فى لغة الضاد. ثمة ظاهرة تتمثل إذن بمُطالبة لغة الضادّ من يقرأ كلماتها وجملها الفاقدة للحركات بفهْم ما يقرأ حتى تكون قراءته خالية من الأخطاء. فاللغة العربية غير المشكولة تحث من يقرأها على الفهم فى أثناء قراءة كلماتها وجملها، وهو أمر يحظى بالتقدير لأن الحث على الفهم يتضمّن دعوة إلى شىء من التفكير. وهذا الأخير هو مربط الفرس الذى يتميّز به الإنسان عن بقية الكائنات. ولعل أكثر علماء النّفس ابتهاجا بمناداة لغة الضاد لمن يقرأها بالفهْم والتفكير فى أثناء قراءته النصوص العربية هم علماء النفس العقليون/الذهنيّون Cognitive Psychologists الذين يعكفون على دراسة العمليات والأنشطة الذهنية والعقليّة التى يحتضنها العقل البشرى فى حياته الواعية ونظيرتها اللاشعوريّة.
• • •
فى مقابل ميزات اللغة العربية المذكورة، يصف كتاب «لننهض بلغتنا» (مؤسسة الفكر العربى، 2013) التبعية اللغوية العربية المقيتة للغرب فى العبارات التالية: «الدفاع عن لغتنا الوطنية، حصننا الأخير، يتطلّب أيضا مواجهة ظاهرة جديدة بالغة الخطورة هى انتشار المدارس والجامعات الخاصة والأجنبية التى تتضاءل فيها اللغة العربية إن لم تنعدم، وتكاد العملية التعليمية كلها تتم بلغة أجنبية ليس فى العلوم الصحيحة فقط، بل أيضا فى العلوم الإنسانيّة. ففى أى بلد آخر على الكرة الأرضية يحدث هذا؟».
إن انفراد المجتمعات العربية بهذه الظاهرة هو مجرد وصف للواقع اللغوى فى العالم العربى اليوم. وهذا أمر غير كاف لمعرفة أسباب تدنى وضعيّة لغة الضاد بين أهلها وفى محيطها العربى، على الرغم من ميزاتها المشار إلى بعضها فى السطور السابقة فى هذا المقال. فالمسألة تتطلّب تعويض موقف اللامبالاة من حال اللغة العربية فى أوطانها بموقف مبال وجدّى وملتزم لا يرضى بديلا عن الإصرار على الرغبة فى كسب رهان فهْم وتفسير عميقيْن لغربة لغة الضاد بين الناطقين بها فى المغرب والمشرق العربيّيْن؛ إذ من دون تحقيق ذلك تغيب الخطوة الأولى الأساسيّة التى تؤهّل الخاصة والعامة على حد سواء من الشعوب العربية لكى يطبعوا علاقتهم بالكامل مع لغتهم الوطنية: ألا وهى اللغة العربية.
النص الأصلى:
https://bitly.cx/S3j6