«العلوم الإنسانية لا تعوزها الأفكار، بل لديها الكثير منها! إنه الشعور الذى يتملكنا، عندما ننظر إلى حال معارفنا؛ إذ لشدة تعدد المقاربات والنماذج والحقول البحثية، ربما فقدنا الوضوح بشأن العالم وأنفسنا». كانت هذه الفكرة الأساسية التى خصصت لها مجلة «Sciences Humaines» الفرنسية، فى عددها رقم 167 الصادر فى يناير من العام 2006، ملفا خاصا، ترجم منه الباحث التونسى فى علم الاجتماع محمود الذوادى مقالة لجان فرانسوا دورتييه Jean - François Dortier، بعنوان «الذكاء المبعثر L'intelligence disperse »، لتقديمها إلى القارئ العربى.
يروى التاريخ الصحيح أن جنديا روسيا جُرح فى معركة فى العام 1943. اسم هذا الرجل الشاب «لاف زتسكى عندما صحا فوق سريره فى المستشفى شعر بألم غريب. زتسكى الذى كان قد أُصيب بانفجار قنبلة، لم يحدث له جرحه الذى طاول المخ أضرارا فى النظر والذاكرة فقط، بل جعله عاجزا عن فهم العالم الذى يحيط به. وجوده أمام طعامه جعله يدرك الشوكة والكأس بصعوبة، لكنه لم يكن بمقدوره أن يتذكر ما هى السكين، وكان ينظر إلى صحنه كأنه شىء غريب. ولم يستطع، على وجه التحديد، إدراك المعنى الكامل للوضع، وهكذا «انهار عالم لاف زتسكى وتطاير من حوله».
فيما يتعلق بالعالم الذى يحيط بنا، نحن مثل لاف زتسكى، نستطيع فهم أشياء كثيرة؛ حتى إننا نتعرض لتدفق هائل ومتواصل من المعلومات. لكن المعنى الشامل يفلت ويهرب منا. اختلطت الأوراق. فكرنا بات متفجرا ومخلعا ومبعثرا وسط عدد لا يحصى من المعارف المحلية، يصعب معها على أى شبكة قراءة كاملة أن تسمح بجمعها فى فكر واحد متماسك. كتب لاف «تفكك كونى». وتفكك كوننا أيضا.
مما لا ريب فيه أنه ليس هناك من زمن سعيد كانت الأفكار فيه واضحة وبسيطة وتخلو من الغموض، لكن كان بالإمكان قراءة العالم بطريقة شفافة. لكن كان هناك على الأقل زمن طرحت فيه العلوم الإنسانية بضع شبكات قراءة شاملة للتفكير فى الإنسان والمجتمع. على مدى القرن العشرين بأكمله، توالى العديد من «البراديجمات الكبرى» التى تناوبت وتشابكت لكى تعطى مفاتيح فكرية قادرة على التفسير: الماركسية، والتحليل النفسى، والمنظور الثقافى، والبنيوية، ونظرية الأنساق. فبالنسبة إلى الماركسيين وهم كثر، كان بالإمكان تحليل المجتمع والتاريخ استنادا إلى أسُسهما أو قواعدهما الاقتصادية. مع التحليل النفسى، كان بمقدور سلوكياتنا أن تكشف الأمور الخفية: تلك التى تتعلق بالاندفاعات اللاشعورية؛ أما البنيوية فادعت قدرتها على الكشف عن هياكل الأساطير والشعائر والمجتمع وأسسهم.
يبدو أنه كان للتاريخ معنى، وللاقتصاد قوانين، وللمجتمع نظام، وللفرد هدف. باختصار، يبدو أنه كان هناك انسجام فى العالم، وذلك على الرغم من أنه كان خفيا، وكان ينبغى على العلوم الإنسانية كشف النقاب عنه.
ثم، ابتداء من عقد الثمانينيات من القرن الماضى، انهارت البراديجمات الكبرى، ورحل فى الوقت نفسه «قادة الفكر وأساتذته»، الذين حملوا تلك الأطر الفكرية، الواحد تلو الآخر.
جاء، بعد ذلك، زمن التعقيد والفوضى وفقدان الحتمية؛ وفى حين بدا المجتمع عصيا على القراءة، والفرد أقل خضوعا للحتمية، دخل الشك العميق أكثر فأكثر فى العقول. فكانت نهاية الأيديولوجيات الكبيرة و«الأحجار الفلسفية» التى ادعت تقييد العالم ضمن قوانين بسيطة (مثل قوانين الاقتصاد، واللاشعور، والبنى والرموز).
عرفت التسعينيات من القرن الماضى النسبية، والشك، ونقد كل ادعاء بامتلاك الحقيقة، وبكونية الأشياء. علماء الأنثروبولوجيا شرعوا فى نقد خطابهم؛ علماء الاجتماع تخلوا عن النظريات العامة للمجتمع أو للتغيير الاجتماعى. وقع هجر منظور النسق فى الميادين كافة لمصلحة تفضيل الدراسات المحلية الأكثر تواضعا.
فى الوقت نفسه، غزت الانعكاسية التأملية (نقد الذات) ميدان العلم. ومَسَّ تهافُتُ السلطة عالم الأفكار ورواد الفكر أيضا. أما الشك والروح النقدية، وهما البعدان الصحيحان أو المفيدان دائما للذكاء، فقد أصبحا أداتين لتذويب جميع المعارف. ومن ثم، نجح «الهدم» بقوة فى القيام بعمله.
• • •
إنها لمفارقة: بينما يبدو أن ذكاءَنا الشامل هو بصدد الذوبان، فإننا لم نتعلم أو نفهم أو نشرح أو نحلل أو ندرس بالقدر الذى نقوم به اليوم. لم تتجمع لدينا أبدا فى السابق هذه الكثرة الكثيرة من البحوث والدراسات والمفاهيم والمعلومات، وحول سائر الموضوعات. وكمثال من بين أمثلة كثيرة: منذ قرن، عندما أراد رواد علماء نفس الطفل فهم كيف يتكون العقل البشرى، اعتمدوا على ملاحظات أولى. ومذّاك بات هناك عشرات الآلاف من الملاحظات والبحوث والدراسات. وتضاعفت الدراسات فيما يخصّ كل مظاهر النمو لدى الطفل (اللغة، الذكاء، العاطفة، العلاقات الاجتماعية)، فى فئات الأعمار كلها، من عمر صفر إلى 3 أشهر، ومن 3 إلى 6 أشهر ...إلخ.. وضعت نماذج حول موضوع النمو هذا بأشكال مختلفة.
لكن منذ رحيل عالم النفس السويسرى جان بياجيه Jean Piaget الذى كان له نوع من الهيْمَنة النظرية فى ميدان علم النفس، يبدو أن مضمار علم نفس الطفل لم يكن مزدهرا ومبعثرا فى الوقت عينه، مثلما هو عليه الآن. يمكن قول الشىء نفسه بالنسبة إلى عديد من الميادين الأخرى مثل اللغة والدين والاقتصاد والتاريخ وعلم النفس والذاكرة والاضطرابات العقلية والتنظيمات والضواحى والقرون الوسطى... فليس ثمة استثناء لأى من تلك الموضوعات فى البحوث المكثفة المتزايدة والمتواصلة. الأرقام مذهلة هنا: ثمة 3500 مجلة فى العلوم الاجتماعية فى العالم تنشر سنويا أكثر من 150000 مقالة. هذا من دون الحديث عن نشْر 6000 كتاب سنويا فى فرنسا فى مجال العلوم الإنسانية (من بين 50000 كتاب منشور).
ثمة مفارقة بالنسبة إلى المعرفة: فكلما تقدم البحث، قل مقدار الوضوح. يغمرنا طوفان متواصل من المعلومات، الأمر الذى يجعل من غير السهل الحصول على أطر فكرية موحدة. وكلما كثرت أماكن إنتاج المعرفة، ازدادت الصعوبة أمام كل منا فى فرض وجهة تظر معينة. باختصار، نعرف كل شىء، لكننا لا نعرف أى شىء.
• • •
يشبه الفكر المعاصر ورشة ضخمة تمر بعملياتِ إعادة تركيب ليس لها نهاية. وإنه لمن الصعب جدا فى المقابل أن نرى تنظيما عاما وخطوط قوة. وعلى الرغم من ذلك، ثمة من وراء الضباب السطحى إعادة تركيبات خفية جارية. ثمة أطر فكرية جديدة تنوب عن القديمة حتى لو لم تأت بها «شخصيات فكرية كبيرة» أو مؤلفات بارزة. فالإطار الفكرى المعرفي/ الذهنى أو نظيره فى وسائل التواصل الاجتماعى، يؤثر بعضه كثيرا فى مجالات ضيقة: الانعكاسية التأملية أو الحداثة الثانية لعلماء الاجتماع، المأسسة فى علم الاقتصاد أو علم السياسة، التطورية التى ولجت علم الاقتصاد أو علم النفس، المقاربة الثقافية فى علم الجغرافيا، أنثروبولوجيا القريب، ظهور اللغويات المعرفية ...إلخ، تتمثل الصعوبة كلها هنا فى إدماج هذا العدد الكبير من البحوث للحصول على رؤية شاملة موحدة.
وإذا كان الكثير من التصورات الجديدة الجارية حاليا قد بقى محصورا فى معارف مختصة، فذلك عائد إلى فقدان الدافع إلى التأليف بينها، وإلى الحصاد والتقييم، وخرائط المعارف. لكن هناك أيضا، وبخاصة، فقدان الأدوات المفاهيمية الموجهة نحو إعادة دمج المعارف المحلية بينها.
هكذا، وعلى عتبة القرن الحادى والعشرين، ثمة تحد كبير أمام العلوم الإنسانية؛ فعلى ما يبدو أن جمع قطع اللغز فى إطار واحد أو فى كل متكامل أمر متعذر، ومتعذر أيضا جمع قطع اللغز فى كل واحد متكامل وإعادة إلصاق أجزاء من معرفة مفتتة، والعثور على حماسة المؤسسين اعتمادا على المادة الغنية بالمعارف المتراكمة فى آن. باختصار شديد، تبدو أمامنا عملية «إعادة البناء» صعبة للغاية.
بعد جرحه، عاش الجندى لاف زتسكى، بحسب تعبيره فى «عالم غير مندمج». ومن ثم، عزم على القيام بعمل بطىء لإعادة وضع نظام فى عقله المسحوق. فأعاد تعلم القراءة والكتابة وتفكيك العالم الذى يحيط به. سردية إعادة البناء سجلها فى سيرة ذاتية قرر إعطاءها عنوان: أنا أستأنف المعركة.
محمود الذوّادى
مؤسسة الفكر العربى
النص الأصلى: