إذا تأملنا تاريخ التكنولوجيا سنجد بين الحين والآخر تكنولوجيا جديدة تظهر تدهش الناس ويبدأ رجال الأعمال فى التسابق على الاستثمار فيها، ثم ينهار كل شىء. خبراء الاقتصاد يسمون هذا الحدث انفجار الفقاعة، أى أن ما كنا نظنه شيئًا ضخمًا اتضح أنه سراب وليس أكثر من فقاعة. هذا قد يحدث فى أى مجال وليس فقط المجالات التكنولوجية كما رأينا فى انفجار فقاعة العقارات فى الصين فى 2020 والأزمة الكبيرة التى سببتها وآثارها المستمرة حتى الآن.
مقالنا اليوم يناقش موضوع الفقاعات وانفجارها لكن فى التطبيقات التكنولوجية لأننا نعيش فى عصر تسيطر عليه التكنولوجيا وتدهش الناس، بل ورجال الأعمال كما رأينا فى قائمة الممولين لشركة ثيرانوس (Theranos) التى أنشأتها إليزابيث هولمز لتصنيع جهاز يمكنه عمل عدد كبيرات من تحاليل الدم من قطرة دم واحدة، ثم اتضح أن الموضوع كله «دجل». قائمة الممولين لتلك الشركة كانت تشمل روبرت مردوخ عملاق الإعلام فى أمريكا ومجلس الإدارة يشمل هنرى كيسنجر. أى أن الاندهاش من التكنولوجيا يمكنه أن يخدع أسماء كبيرة فى عالم المال والسياسة.
كيف تتكون الفقاعات؟ ولماذا؟ وما هو تأثير انفجارها؟ وهل يمكن تفادى كل هذا؟
...
الفقاعات فى مجال التكنولوجيا تظهر نتيجة الزيادة الكبيرة المبالغ فيها فى الاستثمار فى تكنولوجيا معينة نتيجة التوقعات الكبيرة لأهمية تلك التكنولوجيا وعلى قدرتها على «تغيير العالم». ثم يحدث بعد ذلك أن يلاحظ المستثمرون أن الوعود أو الآمال أكبر من الواقع فيحاولون الخروج من هذا القطاع بسرعة مما يسبب انهياره. أوضح مثال على ذلك هو فقاعة الدوت كوم أى الشركات التى تقدم خدمات عن طريق الإنترنت.
بدأت هذه الفقاعة فى الظهور مع نهاية تسعينيات القرن الماضى نتيجة بداية انتشار الإنترنت وانتشار أجهزة الكمبيوتر فى المنازل. هذا بالإضافة إلى قلة الفوائد على القروض فى أمريكا فى تلك الفترة. أدت كل هذه العوامل إلى ظهور شركات كثيرة تقوم بتقديم خدمات عن طريق الإنترنت، ثم بدأ المستثمرون يرون فى تلك الشركات قيمة كبيرة ومستقبل شبه مضمون للمكسب فبدأت الاستثمارات تنهال عليها، وبدأت الفقاعة تكبر حتى وصلت إلى أكبر اتساع لها فى 10 مارس سنة 2000، ثم انهار كل شىء، كيف؟
بدأ المستثمرون يلاحظون أن السواد الأعظم من تلك الشركات لا يحقق أرباحًا نهائيًا، فبدأت المخاوف. تزامن ذلك مع رفع الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى لسعر الفائدة لمقاومة التضخم فزادت المخاوف حتى وصلت إلى حد جعلت المستثمرين ينسحبون، فانهارت شركات عديدة واختفت من الوجود، بمعنى آخر انفجرت الفقاعة.
إذا تأملنا موضوع الدوت كوم سنجد أن هناك عدة أمور أدت إليها:
• ظهور تكنولوجيا جديدة أدهشت الناس.
• انعقدت آمال كبيرة على تلك التكنولوجيا ومستقبلها.
• عدم قدرة المستثمرين على «تثمين» تلك التكنولوجيا أو معرفة قدراتها الحقيقية وبالتالى ارتفعت الأثمان مع ارتفاع الطموحات.
• استغلال رواد الأعمال لظهور تلك التكنولوجيا وظهور شركات كثيرة تعمل فى هذا المجال وبدون دراسة، هناك شركات فى فقاعة الدوت كوم لم تكن عندها خطة ولا حتى منتج، وهذا نتيجة جهل أو استغلال سيئ للظروف.
فى أيامنا هذه نفس تلك العوامل موجودة لكن يمكن إضافة عامل خامس وهو سهولة انتشار المعلومات مما يعظم من حجم الفقاعة.
فى الماضى القريب رأينا فقاعة العملات الرقمية (cryptocurrency) مثل البيت كوين (bitcoin)، التى ارتفع سعرها من 555 دولارا أمريكيا إلى أكثر من 19 ألفا فى الفترة ما بين أغسطس 2016 وديسمبر 2017، بعد ذلك وفى غضون سبعة أسابيع فقدت العملة 65% من قيمتها ومع حلول ديسمبر 2018 كانت قد فقدت 83% من قيمتها، ولنفس الأسباب تقريبًا التى أصابت الدوت كوم، وانفجرت الفقاعة.
السؤال الذى يتبادر إلى الأذهان الآن هو: ماذا عن الذكاء الاصطناعى؟
...
فى أحد الأحاديث الصحفية سألوا روبن لى المدير التنفيذى لشركة (Baidu) إحدى أكبر الشركات الصينية التى تقوم بأبحاث وتقدم خدمات متعلقة بالذكاء الاصطناعى عن رأيه فى الذكاء الاصطناعى التوليدى (generative AI) أى البرمجيات التى تتحدث معنا مثل (ChatGPT, Gemini, Co-pilot, Claude, …) فكان رده: «مثل العديد من الموجات التكنولوجية، فإن الفقاعة أمر لا مفر منه. فى البداية تمر بمرحلة من الإثارة ثم تشعر بخيبة أمل لأن التكنولوجيا لا تلبى التوقعات، بالنسبة للذكاء الاصطناعى التوليدى، أعتقد أننا سنمر بهذه الفترة أيضًا. لكننى أعتقد أنها صحية. ستزيل هذه الفقاعة الكثير من تلك الابتكارات أو المنتجات المزيفة التى لا تناسب السوق. ولكن بعد ذلك، ربما تبرز 1٪ من الشركات التى تعطى الكثير من القيمة للناس والمجتمع».
ما قاله روبين لى صحيح، عندما تنفجر الفقاعة فليس معنى ذلك أن التكنولوجيا ستختفى لكن ستبقى وتكبر الشركات ذات التخطيط القوى، بعد انفجار فقاعة الدوت كوم ظهرت شركة أمازون وهى تقدم نفس الخدمات التى تقدمها الشركات التى انهارت مع انفجار الفقاعة.
خبراء ريادة الأعمال يقولون لنا إن هناك ما يسمى بدورة جارتنر (The Gartner Hype Cycle) وهى دورة زمنية تسير فيها أى تكنولوجيا جديدة حتى تنضج وينتشر استخدامها. أولاً تظهر التكنولوجيا وينبهر بها الناس، ثم تبدأ التوقعات المبالغ فيها، ثم يتبع ذلك الإحباط وانفجار الفقاعة، ومع هذه الخبرة يبدأ الإدراك الواقعى لقدرات تلك التكنولوجيا الحقيقية ونقاط ضعفها، ومن ثم يبدأ الاستخدام الناضج والواقعى لها.
تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى من المنتظر أن تسير فى هذا الطريق، نحن ما زلنا فى مرحلة ما قبل الإحباط فى دورة جارتنر.
...
ماذا نفعل بعد تلك اللمحة السريعة عن الفقاعات التكنولوجية؟ هناك عدة أشياء يجب أن نعيها:
• همسة للمديرين التنفيذيين ورواد الأعمال: إذا رأيت فرصة تكنولوجية مهمة ورأيت بالحسابات إنك ستكسب الكثير فى أول سنة أو سنتين فيجب أن تفكر جيدا فى الفترة التالية، لا يجب أن تمد الخط إلى منتهاه لأن شركة صغيرة شىء وشركة كبيرة شىء آخر. أفضل مثال ناجح لتلك القفزة هى شركة zoom الذى وصل عدد مستخدميها إلى ملايين فى غضون أشهر قليلة نتيجة جائحة كورونا التى جعلت الجميع يعملون من بيوتهم، فهل تستطيع شركتك احتمال هذا التوسع؟
• همسة للمستثمرين: لا تظن أن التكنولوجيا تحل كل شىء، قبل الاستثمار فى أية تكنولوجيا «مدهشة» يجب أن تنظر إلى الاعتبارات الاجتماعية والنفسية والقانونية.
• التوقيت مهم جدا، فهل ظهور تكنولوجيا مدهشة معناه أن العالم مستعد لها الآن؟
الاندهاش الصحى هو ما يتبع فضول علمى، لكن الاندهاش فقط والسعى وراء ربح سريع ستكون نتيجته انفجار الفقاعة.