منذ عدة أيام تم الإعلان عن الفائزين بجوائز نوبل فى الفيزياء، وبدأت مناقشات حادة فى الأوساط العلمية وحتى غير العلمية عما إذا كان الفائزون هذه السنة مستحقين لها أم لا باعتبار أنهم ليسوا فيزيائيين فى الأصل. عند الإعلان عن جوائز نوبل فى الكيمياء ثار لغط مماثل لكن بدرجة أقل. أولاً جون هوبفيلد (91 سنة) أحد الحاصلين على جائزة نوبل فى الفيزياء حاصل على الدكتوراه من جامعة كورنيل الأمريكية فى الفيزياء. الثانى هو جيفرى هينتون (76 سنة) حاصل على الدكتوراه فى الذكاء الاصطناعى من جامعة ادنبره البريطانية. لجنة نوبل قالت فى إعلانها عن الجائزة إن الفائزين قاما بتدريب (أى تعليم) الشبكات العصبية باستخدام الفيزياء، أى استلهما من الطبيعة أفكارًا ساعدت على التقدم فى مجال الذكاء الاصطناعى وهو جزء من علوم الحاسب. اللغط المثار كان عن أن الجائزة يجب أن تُعطى لقفزات علمية فى العلوم الأساسية، لكن الذكاء الاصطناعى يعتبر «تكنولوجيا» وليس علمًا أساسيًا، طبعًا متخصصو علوم الحاسبات بدأوا يردون على ذلك وبدأت مناقشات حادة لن نتكلم عنها فى هذا المقال.
لكن ما سنتحدث عنه هو العلاقة بين علوم الحاسب وبين الطبيعة. علوم الحاسب هو التخصص الذى يشتمل على الذكاء الاصطناعى، أى أن الذكاء الاصطناعى هو جزء من علوم الحاسب، وتعليم الآلة (machine learning) هو فرع من الذكاء الاصطناعى، والتعليم العميق (deep learning) هو فرع من تعليم الآلة، حتى لا يختلط الأمر على القارئ الكريم. لذلك آثرنا أن يكون عنوان المقال يحتوى على عبارة «علوم الحاسب»؛ لأنها تشتمل على كل تلك الأفرع الهامة والتى أصبح العالم كله يتكلم عنها. أما كلمة الطبيعة فتشمل جميع العلوم الأساسية من فيزياء وكيمياء... إلخ. العلاقة بين الطبيعة وعلوم الحاسب هى علاقة ذات اتجاهين.
...
لنبدأ بتأثير الطبيعة على علوم الحاسب وهو تأثير يرجع للبدايات الأولى لتخصص علوم الحاسب ومستمر معنا حتى الآن، بل إنه ظهر توجه يسمى الحاسبات الطبيعية أو (natural computing) وهو استلهام أفكار من الطبيعة لتصميم آليات وخوارزميات فى علوم الحاسب، ويجب ألا ننسى أن ثورة الذكاء الاصطناعى الحالية مستمدة من طريقة عمل المخ (طبعًا بطريقة مبسطة جدًا) أى أنها مستلهمة من الطبيعة، لنرى أمثلة أخرى:
• عندما تعاون علماء الحاسبات مع علماء الوراثة فى دراسة كيفية نمو وعمل شعيرات الاستشعار فى ذبابة الفاكهة أدى هذا التعاون إلى استحداث تصميمات جديدة لشبكات الحاسبات.
• بعض فيروسات الكمبيوتر تحاول محاكاة ما يحدث فى الكائنات الحية من صنع نسخ من نفسها حتى تتكاثر، والحماية من الفيروسات أيضًا تحاكى الأجهزة المناعية فى الكائنات الحية.
• الأسراب موجودة بكثرة حولنا مثل النمل والنحل والطيور… إلخ، هذه الأسراب تتحرك معًا وتتعاون من أجل مهمة محددة مثل جمع الطعام أو الدفاع ضد عدو أو الهجوم على فريسة، من مشاهدة تلك الأسراب اخترع علماء الحاسب ما يسمى (swarm intelligence) أو ذكاء الأسراب وهو فرع من علوم الحاسب متخصص فى كيفية جعل عدد من أجهزة الحاسبات تتعاون فيما بينها للقسام بمهمة محددة. أبرز مثال على هذا هو تعاون الطائرات المسيرة (drones) مع بعضها، فهى من منتجات فرع ذكاء الأسراب لأن كل طائرة منهم هى فى النهاية جهاز كمبيوتر أو حاسب آلى.
قلنا إن العلاقة بين الطبيعة وعلوم الحاسب علاقة متبادلة، فما هو تأثير علوم الحاسب على الطبيعة؟
...
هناك علم يسمى (computational biology) وهو فرع من علوم الحاسب متخصص فى استخدام تقنيات الحاسبات لدراسة الطبيعة حولنا، مثلاً تحليل النظام البيئى ومحاكاته يمكنه المساعدة فى معرفة أى الأحياء تواجه خطر الانقراض وما تأثير انقراضها على البيئة. هذا معناه أن علوم الحاسب تعتبر أداة مهمة تساعدنا على فهم الطبيعة حولنا.
يجب ألا ننسى أن جائزة نوبل فى الكيمياء لهذا العام (2024) كانت عن بناء البروتينات واستخدام برمجيات الذكاء الاصطناعى للتنبؤ بتركيب البروتينات عن طريق تسلسل الأحماض الأمينية. هناك عشرون نوعا مختلفة للأحماض الأمينية، تركيبها بطرق متعددة ينتج البروتينات. اثنان من الثلاثة الذين حصلوا على الجائزة هذا العام استطاعوا عن طريق تلك الأحماض الأمينية معرفة التركيب الداخلى للبروتينات باستخدام تقنيات من علوم الحاسب. أهمية ذلك كبيرة للغاية لأنه عندما نعرف تركيب البروتينات بدقة وعملها يساعد ذلك على تصميم أدوية جديدة أكثر كفاءة وأيضًا معرفة أكثر عمقًا لبعض الأمراض.
بالإضافة إلى كل ذلك فإن علوم الحاسب لها طرقها فى تخزين واسترجاع المعلومات بكفاءة عالية، هذا يمكنه مساعدة الباحثين فى المجالات المتعلقة بالأحياء والبيئة… إلخ؛ لأن البيانات التى يجمعها هؤلاء العلماء من البيئة حولنا ومن الكائنات الحية ضخمة جدًا، تخزينها وتحليلها واسترجاعها يحتاج علوم الحاسب.
...
بعد هذه الجولة السريعة المتعلقة بالمنفعة المتبادلة بين علوم الحاسب والطبيعة هل هناك ما يمكن أن نستفيد منه فى بلادنا؟ هناك عدة نقاط:
• همسة فى أذن باحثينا: لا يجب أن تعمل من أجل الجوائز لأن هذا خطر جدًا. أولاً لأنك قد تختار مشكلة بحثية فقط لأنها قد تفوز بجائزة وهذه المشكلة البحثية غير ملائمة لقدراتك وبالتالى ستفشل وهذا قد يدفعك للاكتئاب أو ترك المجال كله. ثانيًا هناك الكثير من الجوائز مسيسة وتعتمد على شبكة العلاقات وعلى الأهواء والعالِم يجب أن ينأى بنفسه عن ذلك. ثالثًا قد تختار مشكلة بحثية لا تحل مشكلة فى بلدك وبالتالى لن تفيد بلدك إلا لو حصلت على الجائزة ويكون ذلك من قبيل القوة الناعمة.
• لننظر للطبيعة ونحاول إيجاد طرق جديدة لعمل أجهزة الكمبيوتر والبرمجيات، الباب ما زال مفتوحًا على مصراعيه.
• هل فكر باحثونا فى مجالات العلوم الأساسية فى الاستفادة من علوم الحاسب الاستفادة القصوى فى أبحاثهم؟ إذا كانت الإجابة بالنفى فقد حان الأوان.
• هل يمكن أن نشهد تعاونا بين علماء الأحياء والطب والكيمياء والفيزياء… إلخ، مع علماء الحاسبات؟ هذا قد ينتج أبحاثًا مهمة جدًا.
لنستخدم العلم فى منفعة بلادنا ثم الإنسانية ثم نهتم بالقوة الناعمة المتعلقة بالعلم (الجوائز، ترتيب الجامعات… إلخ) فيما بعد.