تتوالى فصول الحرب الإسرائيلية على لبنان ولا تزال أسئلة كثيرة تنتظر الإجابة عنها. ماذا سيحدث لحزب الله فى المرحلة اللاحقة؟ وما الهدف النهائى للجيش الإسرائيلى؟ وما الاتفاق الذى توصّلت إليه إسرائيل والولايات المتحدة وسمح للأمريكيين بتغيير الطرح الذى قدّموه قبل أشهر لوقف الأعمال الحربية بين حزب الله والقوات الإسرائيلية؟
ظهر أول مؤشّر على أن الموقف الأمريكى شهد تغييرًا ما فى أوائل أكتوبر، حين أبلغ مبعوث الرئيس الأمريكى الخاص، آموس هوكشتين، رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية، نجيب ميقاتى، بأن مقترح الحلّ الدبلوماسى الذى عرضه على اللبنانيين فى شهر يونيو الماضى «لم يعد مطروحًا للنقاش» بسبب تغيّر الأوضاع على الأرض. وقد دعت خطة هوكشتين إلى انسحاب حزب الله إلى ما وراء نهر الليطانى، على بعد 30 كيلومترًا تقريبًا من الحدود، ونشر الجيش اللبنانى فى المنطقة الحدودية، إلى جانب قوة الأمم المتحدة المؤقتة فى لبنان (اليونيفيل).
يبدو أن التقارير الإخبارية الصادرة فى أوائل أكتوبر أكّدت أن إدارة بايدن منخرطة فى تفكير أكثر طُموحًا بكثير. بعد أن أصبح حزب الله إلى حدٍّ كبير من دون قيادة سياسة وعسكرية بسبب اغتيال الأمين العام حسن نصر الله، وخلفه المُتوقَّع هاشم صفى الدين، إضافةً إلى عددٍ من كبار القادة العسكريين، يسعى الأمريكيون الآن إلى إحداث تغيير جوهرى فى موازين القوى فى لبنان. وجاء توضيح هذه الفكرة على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر، حين قال إن «ما نريد أن نراه فى نهاية المطاف من هذا الوضع هو أن يتمكّن لبنان من كسر قبضة حزب الله على البلاد».
إن انتخاب رئيس جديد للبنان يشكّل أولويةً للأمريكيين الذين يرون فى ذلك خطوة أولى ضرورية لتوطيد أركان نظام ما بعد حزب الله. ومن غير المفاجئ أن يكون قائد الجيش جوزيف عون، الذى يمثّل المؤسسة الوطنية الوحيدة التى تحظى باحترام معظم اللبنانيين، الشخصية التى يعتبرونها الأنسب لخوض هذا المسعى. يجسّد عون منطق سلطة الدولة، فى وجه منطق حزب الله المتمثّل فى المقاومة المفتوحة. لكن ينبغى على الذين يسارعون إلى إعلان نهاية حزب الله أن يتوخّوا الحذر الشديد، ذلك أن محاولة فرض واقعٍ جديد يعتبره الحزب تهديدًا لمصالحه الحيوية قد تؤدّى إلى اندلاع حربٍ أهلية.
• • •
يبدو أن ثمّة سوء فهم لماهيّة حزب الله. ففى نظر الأمريكيين والإسرائيليين، التنظيم هو مجرّد قوة «وكيلة لإيران»، ما يعنى أنك إذا قتلت قادتها، تحلّ مشكلتك. ولكن الحزب متجذّرٌ أيضًا فى واحدة من أكبر الطوائف فى لبنان، وقد أصبحت الرمزيّة التى يمثّلها جزءًا من الهوية الشيعية الجماعية. بعبارة أخرى، سيرى عددٌ كبيرٌ من الشيعة فى الجهود الرامية إلى إضعاف حزب الله مسعى لإضعاف الطائفة ككُل. لهذا السبب، يحافظ كثرٌ من النازحين الشيعة اليوم على ولائهم للحزب.
على مستوى آخر، يجب على الأمريكيين أن يحدّدوا دور الخطط العسكرية الإسرائيلية فى لبنان فى كل ذلك. يحتفظ الإسرائيليون بمجموعة من الخيارات يهدف أحدها على ما يبدو إلى تطبيق القرار 1559 من خلال نزع سلاح حزب الله بالقوّة، فيما يسعى خيارٌ آخر إلى تعزيز الترتيبات الأمنية على طول الحدود فى جنوب لبنان. قد ينطوى الهدف الأول على حملة تستمر لفترة طويلة جدًّا فى لبنان، وتشمل ربما اجتياحًا إسرائيليَّا وصولًا إلى نهر الأولى وصيدا، حيث يمكن للإسرائيليين أن يستغرقوا ما يحتاجونه من وقتٍ لتدمير مخابئ سلاح الحزب فى مختلف أنحاء البلاد. أما المسعى الثانى فقد يعنى إقدام إسرائيليين على احتلال كامل المنطقة الواقعة بين نهر الليطانى والحدود، واحتفاظهم بالأراضى التى قد يسيطرون عليها، وربط انسحابهم منها باشتراط صدور قرار عن الأمم المتحدة أكثر صرامةً من القرار 1701.
وفقًا لما كشفه الصحفى اللبنانى منير الربيع، يجرى حاليًّا تداول مشروع قرار أوّلى بهذا الصدد لطرحه على النقاش فى مجلس الأمن. يجمع النص بصورة أساسية بين الأهداف الواردة فى القرارين 1559 و1701، بما فى ذلك انسحاب حزب الله إلى الليطانى ونزع سلاحه، فضلًا عن خطوات أخرى تشمل إجراء انتخابات نيابية مبكرة وانتخاب رئيس للجمهورية. ولكن فرص اعتماد القرار محدودة، بحسب الربيع، إلّا أنه قد يكون بمثابة مناورة افتتاحية فى المفاوضات.
المفارقة أن هذا الوضع يمنح إسرائيل ورقة نفوذ يمكنها استخدامها من خلال التهديد بتوسيع حملتها فى لبنان لإرغام مجلس الأمن على تمرير ما تعتبره نسخةً مُرضية لمشروع القرار؛ وإذا جرت عرقلة الإسرائيليين والأمريكيين فى المجلس، فقد يحاولون استغلال هذا التعطيل واستخدامه ذريعةً لتبرير استمرار العملية العسكرية الإسرائيلية فى لبنان.
فى أقصى تقدير، قد يتمكّن الأفرقاء اللبنانيون من إرغام حزب الله على الدخول فى مفاوضات بشأن استراتيجية جديدة للدفاع الوطنى، ولا شكّ أنهم سيحتاجون إلى تعاون برى لفعل ذلك. وحتى فى هذه الحالة، لا شىء مضمون، لأن إيران هى صاحبة القرار النهائى بشأن سلاح الحزب.
ولكن قد تكون ثمّة فرصةٌ لفتح كوّة فى هذا الجدار، نظرًا إلى أن الدمار الذى ألحقته إسرائيل ببيئة حزب الله يشير إلى أنه لن يتمكّن من خوض مغامرات عسكرية جديدة على مدى عقودٍ من الزمن. فى ضوء ذلك، قد تُبدِّل إيران أولوياتها فتنتقل من إعادة تسليح الحزب إلى حماية الطائفة الشيعية المنكوبة واستنهاضها من جديد، بطريقة تتيح لها الحفاظ على نفوذها فى لبنان. وإذا أخفقت فى ذلك، قد يستنتج شيعة لبنان أن دورهم يقتصر على أن يكونوا وقودًا للمدافع الإيرانية، ما يلحق ضررًا بالغًا بطهران يتعذّر ترميمه.
مايكل يونج
مدونة ديوان التابعة لمركز كارنيجى