نشرت مدونة صدى التابعة لمركز كارنيجى مقالاً للباحث المتدرب فى مجلس الشرق الأوسط للشئون العالمية، سركيس سيمونيان، تناول فيه الدور المحورى الذى يقوم به الشتات الفلسطينى على الساحة العالمية لحشد التضامن مع غزة والضفة، مما يؤهلهم لحمل شعلة النضال، وذلك فى ظل تخبط وتقاعس السلطة الفلسطينية عن الاضطلاع بهذا الدور.. نعرض من المقال ما يلى:
لم تعد الهوة الملحوظة بين الشتات الفلسطينى والسلطة الفلسطينية الحاكمة شرخا خفيا بل دَرَكٌ واسعٌ لا تخطئه العين. فهذان الكيانان، اللذان طالما حملا مشعل النضال الوطنى المشترك، يقفان الآن على طرفى النقيض بعد أن فرقتهما سنوات طويلة من الاضمحلال المؤسسى، والتفكك المتباطئ لمشروع الدولة الفلسطينية. وبين أمطار النار التى تشعلها القنابل الهاوية على غزة وما تتحمله المدنيات والمدنيون الفلسطينيون من معاناة لا يمكن تصورها، ضاع صوت السلطة الفلسطينية بين الصراعات الداخلية على السيطرة واللامبالاة العالمية بالمأساة المتجددة يوميًا.
فى خضم هذا المشهد المتصدع، يلوح ويلح سؤال هام: هل يمكن أن يصبح الشتات، المنفصل عن القيادة الرسمية، حجر الزاوية الذى يحمل على عاتقه القضية الفلسطينية من جديد؟
لطالما كان الشتات الفلسطينى هو العمود الفقرى للنضال الوطنى بما يقدمه لحركات التحرر من حملات التضامن والتمويل والمناصرة على المنصات الدولية. وفى الفترات التى شهدت بزوغ منظمة التحرير الفلسطينية، وحدت الشبكات العابرة للحدود الوطنية الفلسطينيون فى المنفى وساعدتهم على توصيل مطلبهم الجماعى بالحق فى تقرير المصير بوضوح وبقوة. ولكن وللأسف مع مرور الزمن وتهاوى الثقة فى السلطة الفلسطينية، التى ابتليت بالفساد والاستبداد والحكم الفاشل، تغير الوضع واضطر الشتات إلى إعادة تعريف دوره فى مساندة القضية الفلسطينية. وبما أن ما يقرب من 50 فى المائة من الفلسطينيين يعيشون الآن خارج الأراضى الفلسطينية، فقد اضطر هذا المجتمع العالمى لتحويل أهدافه من السعى لبناء دولة إلى السعى لحشد التعبئة الشعبية والمناصرة الدولية فى اعتراف صريح بما اعترى مهمته التاريخية من عراقيل وتوجهات جديدة فى آن معًا.
إن الهوة التى تفصل الشتات الفلسطينى عن السلطة الفلسطينية الآن مع كونها مأساوية إلا أنها لحظة حساب هامة لإخفاقات السلطة الفلسطينية الصارخة. ففى خضم حرب غزة، أثار الإحباط من إدارة الرئيس محمود عباس، إلى تآكل ثقة الجمهور فيها. وتشير استطلاعات الرأى إلى أن 78 فى المائة من الشعب الفلسطينى يطالبون باستقالة الرئيس عباس. وفى الوقت نفسه، أدت الصراعات على السلطة بين السلطة الفلسطينية فى الضفة الغربية وحماس فى غزة إلى شل الحكم، وتمزيق الوحدة الفلسطينية، وزلزلة الأرض تحت أى قيادة متماسكة تمثل قضية مشتركة.
فى تناقض صارخ، تبنى الشتات الفلسطينى نشاطا ديناميكيا لامركزيا، فى معظمه، مستفيدًا من دوره التاريخى فى دعم القضية الفلسطينية من خلال المساهمات المالية والمناصرة وجهود التضامن. وحشدت مبادرات مثل الحملات العالمية لحركة الشباب الفلسطينى على وسائل التواصل الاجتماعى الدعم الشعبى لغزة، متجاوزة القنوات الرسمية. وكذلك حشد الفلسطينيون الأمريكيون، فى السنوات الأخيرة، الجهود لجمع تمويل قياسى لدعم غزة فى الأزمات الإنسانية التى تشهدها، حيث أعلنت منظمات مثل «صندوق إغاثة أطفال فلسطين» ومنظمة «أنيرا» عن مستويات تبرع غير مسبوقة.
وبينما استمرت السلطة الفلسطينية فى تخبطها، صعد الشتات الفلسطينى إلى الساحة العالمية بقوة لا مثيل لها ليعيد تشكيل السياسة والخطاب الدوليين، وبدأت المنظمات التى يقودها الشتات مثل منظمة «أمريكيون من أجل العدالة فى فلسطين» و«معهد التفاهم فى الشرق الأوسط»، عملها فى أروقة السلطة لتعيد صياغة الرؤية الرائجة حول الاحتلال الإسرائيلى وتتحدى الروايات التى طالما روجتها وسائل الإعلام الغربية، ولتضغط على الحكومات الغربية لإعادة النظر فى سياساتها القائمة منذ عقود بشأن المساعدات العسكرية لإسرائيل.
حرص الشتات من خلال العمل الدعوى على بعث الحياة فى «حق الفلسطينيين فى العودة» ونشر المطالبة بهذا الحق فى الخطاب العالمى. فعلى سبيل المثال، أطلق مركز العودة الفلسطينى الذى يتخذ من المملكة المتحدة مقرا له حملات لا تكل ولا تمل من أجل حقوق اللاجئين واللاجئات، وتمكن من تحقيق وضع استشارى خاص لدى المجلس الاقتصادى والاجتماعى التابع للأمم المتحدة فى عام 2015. وفى الوقت نفسه، تقود الحملة العالمية للعودة إلى فلسطين، التى تعمل فى خمسة وأربعين بلدا، فعاليات تدور فى جميع أنحاء العالم لضمان بقاء القضية على جدول الأعمال الدولى. وتضمن هذه الجهود أن يظل حق العودة حركة لا تنام وليس مجرد ذكرى راحلة.
إن الزخم من أجل التغيير يتصاعد ولا مجال لقمعه. ويمكن أن تكون دعوة الحملة الشعبية الفلسطينية إلى إضفاء الطابع الديمقراطى على منظمة التحرير الفلسطينية نقطة تحول هامة، خاصة إن تبعها تعاون بين قيادة قوية موحدة وشتات قوى متمكن. لا مفر من العمل على تحويل المناصرة المفككة والمجزأة إلى قوة حقيقية ساعية لتحقق العدالة، وأى محاولة لا ترقى لهذا المستوى قد تضع مستقبل فلسطين على طريق التفكك الذى يشوه حاضرها.