نوايا ترامب تجاه غزة تعكس عدم الإدراك العميق - من الفضاء الإلكتروني «مدونات» - بوابة الشروق
الجمعة 14 فبراير 2025 12:52 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

نوايا ترامب تجاه غزة تعكس عدم الإدراك العميق

نشر فى : الخميس 13 فبراير 2025 - 8:05 م | آخر تحديث : الخميس 13 فبراير 2025 - 8:05 م

يصرّ الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، منذ فوزه بولاية ثانية، على أن بمقدوره تحقيق «السلام» فى الشرق الأوسط. وهو صرّح خلال المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار الذى دخل حيّز التنفيذ فى يناير الماضى بين إسرائيل وحركة حماس فى غزة، بأنه يستحقّ الحصول على جائزة نوبل للسلام مقابل جهوده. لكنه كشف، فى مؤتمر صحفى مشترك مع رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، هذا الأسبوع عن أن رؤيته للسلام تتمحور فعليًا حول التهجير القسرى للفلسطينيين واقتلاعهم من أرضهم، وانتهاك القانون الدولى. يعبّر مخطّط ترامب إذًا عن توجّه استعمارى توسّعى جديد وعن عقلية تجارية قائمة على الربح لا تنظر إلى غزة باعتبارها موطنًا للفلسطينيين، بل كمشروع عقارى قيّم يُراد منه جذب الاستثمارات الخاصة والمشاريع التنموية.
عَقِب تنصيب ترامب رئيسًا فى يناير الفائت، دعا علنًا إلى «تطهير» غزة من سكانها، وحثّ مصر والأردن على استقبال الفلسطينيين المهجّرين من القطاع. وعلى الرغم من موجة الإدانات الدولية التى جوبِه بها هذا المقترح، ازداد ترامب تشبّثًا بموقفه خلال مؤتمره الصحافى مع نتنياهو، مُعلنًا مجدّدًا تأييده لفكرة ترحيل الفلسطينيين عن قطاع غزة بشكلٍ دائم، ومشدّدًا على أنه لا خيار أمامهم سوى المغادرة للعيش فى مكان «جديد وجميل»، من دون إمكانية العودة إلى وطنهم أبدًا. وجدّد ترامب أيضًا مناشداته إلى مصر والأردن ودولٍ أخرى لم يسمِّها، بالموافقة على استضافة الفلسطينيين. بيد أن ردود الفعل الدولية المندّدة بتصريحاته دفعت المتحدّثة باسم البيت الأبيض فى 5 فبراير الحالى إلى محاولة التخفيف من حدّتها، قائلةً إن إخراج الفلسطينيين من غزة سيكون لفترةٍ مؤقتة ليس إلّا.
إذًا، أوضح الرئيس الأمريكى أن مقاربته للسلام فى الشرق الأوسط لا تتضمّن التوصّل إلى تسوية سياسية. بل، هو يعمَد إلى تجاهل القانون الدولى من خلال الترويج لارتكاب التهجير القسرى (الذى يُعدّ جريمة دولية) والتطهير العرقى بحقّ الفلسطينيين، وكأنهم أصل المشكلة. بتعبيرٍ آخر، تتمثّل رؤيته لتحقيق «السلام» فى تصفية القضية الفلسطينية وتقييد الحقوق السياسية للفلسطينيين، بما فى ذلك حقهم فى تقرير مصيرهم والعيش بحرية وكرامة على أرضهم.
• • •
إن مساعى محو الفلسطينيين كشعب بانَت بوضوحٍ فى خطاب ترامب الذى عمَد إلى نفى صفة الإنسانية عنهم انطلاقًا من مقاربةٍ عنصرية واستشراقية تجرّدهم من أى دورٍ فى تقرير مصيرهم. فقد صوّر ترامب الفلسطينيين وكأنّهم طيّعون خانعون ليس لديهم أى تطلّعات سياسية. وبدا ذلك جليًّا فى تصريحه بأن «السبب الوحيد الذى يدفع (الفلسطينيين) إلى العودة... هو أنهم لا يملكون أى بديلٍ آخر... وإلّا، فمَن عساه يريد العودة؟» تنمّ مثل هذه الادّعاءات عن جهلٍ فادح بالتاريخ الفلسطينى وبمدى تجذّر الفلسطينيين فى أرضهم.
كذلك، أقدَم ترامب على تشويه الحقائق من خلال نزع الأوضاع فى غزة من سياقها التاريخى والسياسى واختزال معاناتها بكونها مجرّد فاجعة إنسانية لا جذور تاريخية لها. فهو وصف القطاع بأنه «مكانٌ سيّئ الحظ» عاش فيه الفلسطينيون «وكأنهم فى جحيم»، مشدّدًا على أن غزة «ليست مكانًا يمكن للناس أن يعيشوا فيه، (وإن عادوا إليه) أضمَنُ أنهم سيموتون». وصوّر «الجحيم» الذى يعيشه الفلسطينيون فى غزة وكأنه حصيلةٌ لا مفرّ منها ناجمة عن كارثة طبيعية مؤسفة ألمّت بهم، متغافلًا عن ثمانيةٍ وخمسين عامًا من الاحتلال الإسرائيلى، وسبعة عشر عامًا من الحصار، ونحو عامٍ وثلاثة أشهرٍ من حرب الإبادة التى شنّتها إسرائيل على القطاع بأسلحة ومساعدات عسكرية أمريكية. وقد أسفر هذا الفصل الأخير من الصراع عن مقتل أكثر من 61 ألف فلسطينى، معظمهم من النساء والأطفال، وعن هدم 92 فى المائة من الوحدات السكنية فى القطاع، وعن التدمير الشامل للبنى التحتية الحيوية، مخلّفًا ملايين الأطنان من الركام والأنقاض التى قد تستغرق عملية إزالتها حوالى عشرين عامًا.
اللافت أن مخطّط ترامب يُعيد إلى الواجهة المطامح التى يتوق إلى تحقيقها منذ زمن طويل اليمين واليمين المتطرّف فى إسرائيل. وبالرغم من أن هذه الفكرة بدَت بعيدة المنال فى السابق، باتت تتردّد مرارًا على لسان المسئولين الإسرائيليين. فعلى سبيل المثال، صرّح أرييل كالنر، وهو عضو فى الكنيست من حزب الليكود، فى أعقاب هجمات 7 أكتوبر، قائلًا: «فى الوقت الراهن، ثمّة هدفٌ واحد هو النكبة. نكبةٌ ستطغى على نكبة 48». كذلك، يدعو وزراء اليمين المتطرّف فى إسرائيل، على غرار إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، منذ فترة طويلة إلى تحقيق «الهجرة الطوعية» للفلسطينيين من خلال فرض ظروف معيشية لا تُحتمَل، بحيث يُرغَمون على المغادرة. لذا من غير المفاجئ أن المسئولين الإسرائيليين شعروا بفرحٍ عامر بعد المؤتمر الصحافى الذى عقده ترامب مع نتنياهو، متبجّحين بأن بإمكانهم الآن العمل على «دفن الفكرة الخطرة المتمثّلة فى إقامة دولة فلسطينية بشكل نهائى». والواقع أنهم ما كانوا ليتخيّلوا أبدًا أن يأتى رئيسٌ أمريكى يؤيّد علانيةً فكرة الترحيل الجماعى للفلسطينيين ويناشد بتنفيذها.
• • •
لكن مخطّط ترامب لا يهدف إلى استرضاء اليمين الإسرائيلى فحسب، وليس مدفوعًا فقط بتقاربه الأيديولوجى مع إسرائيل، بل ينبع أيضًا من مصالح تجارية ومن ذهنية استعمارية جديدة تنظر إلى غزة بوصفها موقعًا مميّزًا للتطوير العقارى ولجذب رءوس الأموال الخاصة. وربما صدرت هذه الفكرة عن صهر ترامب، جاريد كوشنر، الذى قال فى فبراير 2024 إن «العقارات على الواجهة البحرية لغزة يمكن أن تكون ذات قيمة كبيرة». ومنذ بداية العام الحالى، تحدّث ترامب عن أن غزة تزخر بفرص الاستثمار العقارى، مُعرِبًا عن إعجابه بموقعها المطلّ على البحر ومناخها المعتدل. وخلال المؤتمر الصحافى، وصل به المطاف إلى حدّ الإعلان عن أن على الولايات المتحدة «الاستيلاء» على غزة و«امتلاك» تلك القطعة من الأرض، وكأن لا وجود للفلسطينيين فيها، وطرَح رؤية تحويلها إلى منتجع سياحى فخم على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وصفَه بـ«ريفييرا الشرق الأوسط». ومع أنه لم يأتِ صراحةً على ذكر حقلَى الغاز قبالة ساحل غزة، فهما يشكّلان على الأرجح عاملًا إضافيًا يزيد من اهتمامه بالقطاع، على الرغم من دعواته إلى تبنّى سياسة خارجية أمريكية انعزالية.
وهكذا، من خلال تصوير مستقبل غزة على أنه جزءٌ من مشروع تجارى بقيادة الولايات المتحدة، ولا مكان فيه للفلسطينيين، بدا ترامب غير ملتزمٍ فعليًا بالمرحلة الثالثة من اتفاق وقف إطلاق النار، والتى تنصّ على إعادة إعمار القطاع. بدلًا من ذلك، أعاد تعريف هذه العملية بما يصبّ فى مصلحة المستثمرين، على حساب أصحاب الأرض الشرعيين، أى الفلسطينيين.
صحيحٌ أن مخطّط ترامب محكومٌ بالفشل بسبب رفض الفلسطينيين القاطع لتهجيرهم قسريًا، بيد أن خطورته تكمن فى أنه يجعل من الدعوة العلنية إلى ممارسة التطهير العرقى والقضاء على شعب بكامله أمرًا طبيعيًا، بعد أن كانت فكرةً لا يمكن تصوّرها فى السابق. علاوةً على ذلك، قد تسهم التصريحات الصادمة التى أدلى بها ترامب فى تشتيت الانتباه عمّا يجرى على الأرض، خصوصًا فشل إسرائيل فى فرض حلٍّ عسكرى فى غزة، ولا سيما عجزها عن القضاء على حركة حماس. ولذلك يجب التأكيد على أن التوصّل إلى حلٍّ سياسى وإنهاء الاحتلال الإسرائيلى هما السبيل الوحيد لكسر هذه الحلقة المفرغة من الحرب والدمار.

نور عرفة

مدونة ديوان التابعة لمركز كارنيجى

النص الأصلى

التعليقات