أشبع أحد المِجتمعين الآخرَ تأنيبا. بالَغ في السّخرية حتى ظهرت سحابة كدر، فأسرع ثالث يلطّف الأجواء: خِفّ عليه. جاءت الكلمة في وقت مناسب وأعادت للقعدة هدوءها؛ والحقّ أن الواحد قد يتمادى في اللوم والتبكيت حتى ليحتاج مَن يتدخّل، فينبهه كي لا يقسو ولا يضغط، وكي يترفّق ولا يبالغ بما يُوجع.
• • •
الخفيف في قواميس اللغة العربية هو قليل الوزن وثمة معان أخرى متنوعة للكلمة. يقال إن فلانا قعدته خفيفة؛ أي لا يتضايق منها الآخرون، ويقال خفّ إليه أي أسرع نحوه، وخِفّ عنه؛ أي لا تُلحّ عازما أن تملأ رأسه بما تريد، وإذا سُئِل واحدٌ عن مبلغ إلمامه بأمر ما؛ فردَّ أنه يفهمه "على خفيف" كان المعنى أنه قليل المعرفة به، أما البّحر الخفيف فأحد بحور الشّعر شائعة الاستخدام قديما.
• • •
في مطلع القرن العشرين غنّى سيد درويش: خفيف الروح بيتعاجب برمش العين والحاجب، من ألحانه وكلمات بديع خيري، وقد ردّدها من بَعده كثيرون؛ إذ لحنها قريبٌ إلى الوجدان، سهل في الحِفظ والترديد؛ لكن مذاقا خاصا يبقى للأصل مهما أجاد اللاحقون.
• • •
يصحو خفيفُ النّوم لأقل سبب وغالبا ما تتعذّر عودته للسُّبات من جديد؛ يعاني على أثر طباعه مَشاكل الانتباه والتركيز والتذكّر، ويبدو معظم الأوقات مُجهدا. يختبر كثيرنا صعوبة الغفو هذه الأيام؛ فتفاصيل الحياة باتت مُفزعة لفرط تناقضها؛ دماء وحفلات ومواسم ومجاعات؛ كلُّها مجتمعة في آن وكلها تحضُّ على الأسى والغضب.
• • •
في كثير أدوارها تلقي ماري منيب عبارة "يجعل كلامنا خفيف عليهم" والقصد هؤلاء "الأسياد" الذين يشغلون جانبا محوريا في العمل المُقدَم؛ حيث الوجود الغامض القادر على إفساد الوئام وإيقاع الأذى. الأسياد رمز لقوة أكبر، وإحالة الأزمة لهم -هانت أو كبرت- وسيلة مألوفة للفرار من المسئولية، لا تنحصر في الدراما إنما نمارسها كسلوك نمطي.
• • •
للشاي الخفيف مذاق أقل حدة وأكثر مسالمة، والعادة أن يطلبه من أراده مباشرة وبوضوح، فالغالبية تفضله داكنا ثقيلا. على كل حال تتفاوت الأمزِجة والأهواء؛ ويبقى لكلٍّ حقّه في الاختيار.
• • •
يقول المأثور الشعبيّ الأصيل: يا بخت من زار وخفّف، والمراد عدم البقاء لدى المُضيف طويلا وتجنب إرهاقه في أشكال من الترحيب، وفي السياق ذاته نقول: "زيارة خفَّافي" قاصدين لقاءً بسيطًا لا تكلُّف فيه، وإذا كانت لفظة "خفافي" غريبة على المعاجم؛ فإنها اشتقاق بارع يُوجز المعنى المرغوب.
• • •
من مقومات السّاحر الذي يقدم حيلا وألعابا ناجحة ممتعة؛ خفة اليد، وهي أيضا صفة النشال القادر على اقتناص غنيمته والفرار بها دون أن يلحظه أحد. يُوصف النشالون المَهرة بأن في استطاعتهم سَرقة الكّحل من العين، والقصد التمثيل بما يستحيل الاستيلاء عليه؛ فلون على حافة الجفن عصيٌ على الانتزاع دون لفت الانتباه.
• • •
إذا قال واحد للآخر "يا خفيف" فنوع من الاستهزاء. الخفيف هنا استظرف وسعى لأن يُظهِر قدرتَه على الهَذر والمزاح والتنكيت؛ لكن محاولته جاءت لزجة فجّة، لا تستَدِرُّ ضحكاتِ رفقته ولا تلقى القبول.
• • •
قرأت "كائن لا تحتمل خفته" منذ أعوام طويلة، لا أتذكر التفصيلات بدقة لكن رواية كونديرا التي كتبها في الثمانينيات، تركت بصمة وعرة عميقة لا خفة فيها، وأصل عنوانها "وجود لا تحتمل خفته" وهو أكثر رهافة من ترجماتنا.
* • •
الوعكةُ الخفيفة لا تُقعد المَرء في فراشه ولا تلزمه في العادة بعلاج جاد. تأتي وتمضي لحالها دون ضغينة، ومثلها الرياح الخفيفة التي تمر دون خسائر، والأكلة الخفيفة التي لا تثقل المعدة وتحفظ للمرء حيويته ونشاطه.
تخفيفُ الأحمال والأعباء والأضرار؛ كلها مصطلحات تُستخدم للتّهوين من شأن ما تعنيه مع تجنّب ذكر الحقائق. أشار أولها لفترات من انقطاع التيار الكهربائي تسببت في أزمات عنيفة، وارتبط الثاني في الأذهان بعكس المراد إذ ازدادت أحوال الناس تدهورا كلما ورد في تصريح أو بيان، والثالث على دين سابقَيه.
• • •
يُقال "خِفّ تعوم" والقصد الحسن ترك التصلّب والجّمود وإيثار المرونة في التعامل مع مُختلف المواقف؛ لكن الحكمة الشعبية تُستعمل على الأغلب لتمرير ما يجافي المبادئ القويمة: خِفّ ولا تقف أمام الخطأ ودَع الأمور تسير، خِفّ ولا تتمسّك بالمثاليات، خِفّ وإلا رَسَبت في القاع وطفا مِن حولِك الأخفاءُ الطّيعون.
• • •
ربما يترك الواحد منا تلك القواعد والأعراف المُتّبعة في لقاء مِهنيّ، ويتخفّف إلى حدّ بعيد من الرّسميات. يتباسط في حديثه وتصرفاته ويتعامل بودّ ظاهر، آملا أن يؤتي الأمر ثماره المرجوّة. التخفّف من الجّمود يزيل في كثير الأحيان التوترَ، وتغليب الحسّ الإنساني يرفع الحواجز ويؤسّس لقدر وافر من التفاهم.
• • •
خِفة الدَّم مُصطلح شائع على ألسنتنا وبالمثل خفَّة الظل، والقصدُ بالطبع لطفُ وظُرف الشّخص الموصوف، وإذا كانت الصفة مَيزة، فخِفّة العقل على النقيض؛ ليست بمديح ولا ثناء. هذا الذي خَفّ عقلُه عاجزٌ في معظم الأحوال عن استيعاب الأمور ووزنها وإصدار رأي منطقي أو حكم معتدل بشأنها، والأمثلة كثيرة وافرة.
• • •
خفة الروح سِمَة لا تُكتسب. هي مزيج من اللطف والكياسة ورقة الحضور. هي أيضا إيجاز بليغ لسهولة التواصل والاعتياد وحدوث الألفة، يقال عن صاحبها إنه جاء وانصرف مثل الطيف، عابر بلا إثقال، وربما يقال أيضا في تعبيرات الأدب: يمشي مُحلقا، وهناك أيضا وصف المُشيعين لنعش بأنه خفيف قد طار بصاحبه؛ والمراد صالح عمله في الدنيا التي تركها، ولا يُنسى قول أبو العلاء: خفّف الوَطء فما أظنُّ أديمَ الأرضِ إلا مِن هذه الأجساد. والبيت من قصيدة تعبٌ كلها الحياة، التي أظنها من دُرَر قصائده وإن تبدت على قدر وافر من التشاؤم.
• • •
يضرب المثل بالعصفور في خفة وزنه، وكثيرًا ما تمدح فتاة بأنها مثل عصفورة في رقتها؛ لكن العصفورة بالمقابل تعطي إيحاءات كثيرة، فمن نحافة الجسد ودقته ورقة الحاشية وطيبة القلب وسلامة النية والطوية، إلى الوشاية والتجسس على الآخرين ونقل الأخبار بين هذا وذاك؛ العصفورة في زمننا هذا تكني سلوكا قبيحا منبوذا، العصفورة شخص لا يوثق فيه ولا يؤمن له؛ وأكم من عصافير حطّت هنا وهناك ونقلت أسرارا وضلعت في تدبيرات.