قامُوس الكَّسالى - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 14 ديسمبر 2024 2:01 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قامُوس الكَّسالى

نشر فى : الجمعة 13 ديسمبر 2024 - 7:25 م | آخر تحديث : الجمعة 13 ديسمبر 2024 - 7:25 م

اعتدنا فى أيامِ المَدرسة أن تجلسَ الطالباتُ اللاتى يحصُدن أقلَّ الدَّرجاتِ بآخر صَف. يكتسبن بموقعِهن هذا صِفةَ الكَّسولاتِ الخائبات؛ ولا يزول عنهن التَّوصيفُ المُهين إلا بالتقدُّم وهَجرِ المُؤخرة. الجلوسُ بمنأى عن السَّبورة والمُعلّم يعكسُ رغبةَ الانفصالِ وعدم المُشاركة، وقد يفضى فى كثير الأحوال للنُعاس ويؤكد وَصمةَ الكَّسل. مرَّت السُّنونُ وكبرنا ولم تصمُد التقسيمةُ المُجحِفة طويلًا؛ فقد اختارت بعضُ النَّجيبات التخلّى عن الصُّفوف الأولى وتقدَّمت الأخيراتُ ليحتلنها، وتوارت الفوارقُ مع استفحالِ صَيحةِ الدُّروسِ الخُصوصِيَّة التى شملت الموادَ جميعها، وقللت مِن أهميَّة المَدرسة بوجه عام.

• • •

كَسِلَ عن الشىء أى توانى فى أدائه ومثلها كسَّل بتشديد حرف السّين، والمُكَسِّل فاعل، أما الكسلان فصفةٌ مُشبهة تدلُّ على الثبوت وجمعها كسالى، والكسول مُشتقٌ آخر يُوحى بتجذُّر الصِفة فى الشَّخص ويشى بأصالتها، ويدلُّ استعماله على أنها ليست بأمر طارئ؛ بل طبعٌ يتعسَّر تغييره أو تقويمه وبالتالى تتبلور تبعاتُه ثقيلةً مُزعجة، ولا عجب فى هذا السياق أن تقرَّ الأمثولةُ -التى لا نستشهد بها كثيرًا- بأن الندامةَ فى الكَّسل كالسُمّ فى العَسل.

• • •

كسلُ أعضاءِ الجِسم عن تأدية وظائفها قد يَنتج عن مرض يستوجب الفحص وتحديد السَّبب، تكسلُ الكُلى ويكسل الكَّبد وأصل الاضطراب قد يكون واحدًا وقد تكون أسبابًا عِدة مُتفرقة، وفى الأحوال كلها يتطلب الأمر اهتمامًا وعناية.

• • •

إذا تكاسَلَ الواحدُ عن أداء واجباتِه فالمعنى أنه قد أبدى فتورًا تجاهها وتعمد تجاهلها وإهمالها، التكاسُل سلوكٌ طبيعى ما ظلّ فى حكمِ الاستثناء؛ لكننا نمارسه أكثرَ من المعتادِ ونجعل منه قاعدةً، والشاهد أن فى بيوتِ أغلبنا كثير المَهام التى حان وقتُ إنجازِها منذ زمن؛ لكنا نتجاهلها ونغضُّ البَصرَ عنها إلى أن نعتادَ الحال. مِصباح مُحترقٌ يحتاج بديلًا، صناديق من الورَق المُقوَّى مُكدسة فى الشُرفة تحتاج مَن ينفذ قرارَ التخلُّص منها، أوراقٌ مُتراكِمةٌ لا بد من فرزِها وتصنيفها، وفى كثير الأحيان تقع مُهمةُ إخراجِ الملابس المُناسبة للطَّقس مِن مَكمنها؛ مَوقعَ المَهام التى نكسلَ عنها ونتجنَّبها، إلى أن تمسى مُلِحَّة عاجلة.

• • •

ذاك الكسل الذى ينتابُ مُعظم الناسِ صباح يوم الإجازة، والمَيلُ الجارِف للمُكوث فى دفء الفراشِ خاصة ما انخفضت الحرارةُ وحلَّ مَوسم الشتاء، ثم غيابُ الحماسةِ للخروج فى فُسحة ولو كانت المَسافةُ قريبة، واستحكامُ رغبةِ البقاءِ فى البيتِ مع تَوفير بعضِ المُسليَّات؛ كلها أعراضٌ قد تقع تحت عنوانِ الكَّسل اللذيذ، لكنها قد تمثل فى الوقت ذاته مؤشرًا على اضطراب نفسى؛ ينتاب المَرءَ فيُقعِده فى مكانه ويَصرفه عن اهتماماته، ويحرمه المسرَّات التى ألفها فيما سبق.

• • •

فى عالم مجلة ميكى؛ مَثلَّ بطوط تلك الشخصية الكسولة التى يَتمحوَر اهتمامُها حول الراحة والاسترخاء، والتى لا تحب العمل ولو كان بسيطا تافها، وتفضل النوم على أى صورة من صور النشاط؛ بينما قدم عم دهب الشخصية المُتيقظة المليئة بالحيويّة، والتى تسعى لتحقيق المكسب فى كل لحظة، ولا تغفل عينها عن فُرصة. بطوط وعم دهب طرفا النقيض، ورغم ميل الأطفال بطبيعتهم للحركة والاستكشاف والمُغامرة؛ فقد استحوذ بطوط الكسول على الاهتمام والتعاطف وسط من عرفت من أصدقاء وصديقات، بما يفوق عم دهب الذى بدا معظم الأحيان مؤذيًا شريرًا.

• • •

توحى كثرة التثاؤب بالكسَل. المُتثاءِب على مدار اليوم مُتعَب مُرهق وحاجته للراحة بادية، وعادة ما يكون الأمر بمنزلة عدوى تنتشر ما بدأت، وتنتقل من واحد لآخر فى سرعة ويصعب أن تتوقف إلا بفعل يضع لها حدا ويعيد للمجموع حيويته وإقباله. فى بعض البلدان المتقدمة تتخلل ساعات العمل دقائق إجبارية يمارس فيها الموظفون نشاطا بدنيا بسيطا؛ تتحرك خلاله الأطراف ويزداد تدفق الدماء إلى خلايا المخ ويتجدد الانتباه المشتت؛ لكن هذا الطقسَ لا يجد له مكانا لدينا، فالشعوبُ المُتهالكة فاقدة للقدرة على الحركة بوجه عام؛ لا لعِلة فى الأجساد، بل الروح الخابية المنطفئة التى لا تجد ما يشحذها.

• • •

يُقال ضِمن قاموس الحِكَم العربيَّة إن الحركةَ بركةٌ، والتوانى هَلكة، والكَسل شؤم، والحقُّ أن الجمل التقريرية الثلاث تبدو دقيقةً ناجزة؛ فالحركة تأتى بكل جديد وتزيد المَعرفة، والتوانى عن الفعل يَهدم الإرادةَ ويَقضى عليها، أما الكَسل فتقصير وضَعفٌ فى الهِمَّة، وكلاهما يُورث الإنسانَ حظًا تعسًا. 

• • •

يُفضل الكَّسولُ أن يقومَ عنه الآخرون بمهام يعدها مُزعجة ثقيلة. لا يرحب بتأدية أى من الواجبات التى تخصُّه، كما لا يُخطط أيضًا للتنصُّل منها؛ إنما يتركها للأقدار كيفما جاءت. يردد مُعظمُنا «إن شاء الله» ويكون المعنى المُبطَن أن الأمرَ المقصودَ لن يجد طريقَه للتحقُّق، ونقول «ربنا يسهل» ولسانُ الحال مُدرِك أن التسهيلَ بعيدَ المنال ما لم نتحرَّك تجاهه خطوة.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات