تركَ الولد الصَّغير مَجموعةَ التدريب التي تعدو حوْل الملعبِ في عمليةِ إحماءٍ مُعتادة، وانطلق صوبَ المُدرّب يخبره أن أمَّه قد هاتفته، وأنها تريد منه الذهاب لأخيه عند حمَّام السباحة. أطرقَ المُدرّب لثانيتين، ثم بَسطَ يدَه سائلًا الولد أن يُعطيَه الهاتفَ كي يتحدَّثَ مع الأم. رجع الولد للوراء خُطوة وقد أدرك أن الادعاءَ الكاذبَ لم ينطلِ على الرَّجل الفَطِن، وأنه على وَشك أن يُفتضَح، وأن يُصبحَ أضحوكةً وسط زملائه؛ فبكى. زعقَ المُدرب فكفَّ عن البُكاء وعاود الجَري وكأن دمعاتِه كانت هي الأخرى مَحضَ ادعاء.
• • •
يُقصَد بالمُدَّعي في غالب الأحوال هو الشَّخص الذي ينتحل أمرًا من الأمور لا سند له. تقول قواميس اللغة العربية أن الفعلَ ادَّعى بتشديد الدال يشير إلى القول المطروح أمام الحاكم، المُتطلِّب لإثبات. المُدَّعي فاعلٌ والمُدَّعى عليه مفعولٌ به، أما المصدر فادِّعاء. ربما يدَّعي المرءُ على آخر وقد يدَّعي على نفسِه، وقد يكون محتوى ادعاءه غير واضح المعالم؛ فيؤكد المُوظَّف الذي تغيَّب عن عمله على سبيل المثال؛ أن ظروفًا طارئة قد عطَّلته ومَنعته من الحضور؛ رغم كاملِ استعداده.
• • •
مِن النَّاس مَن يدَّعي الفقرَ؛ كي يأخذ دون أن يُعطيَ، ومَن يدَّعي الغِنى وامتلاك الثَّروة ويتعالى على الآخرين؛ كي يرى في أعينهم نظرةَ اشتهاءٍ وربما حَسرة؛ وغالبًا ما يُعاني الطرفان في حياتِهما، ويبدوان ناقمين على أحوالهما غير راضيين.
• • •
في حقلِ المُعاملات القانونية؛ يقوم الادعاءُ بصَوغ الاتهامات وتوجيهها، أما المُدَّعى عليه؛ فهو الشَّخص الذي يدافع عن نفسه بشتى السُّبل في مواجهة مَساعي إدانته. بعضُ المرَّات تكون الإدانة المُجتمعِيَّة مُسبَقة بسبب الحملات الإعلاميَّة التي تُهيئ المناخَ العام وتقوده نحو تكوين رأيٍ بعينه.
• • •
حين يكون الادعاءُ كاذبًا فإن صاحبه يستحقُّ عقابًا ملائمًا، وما مِن شكّ أن الكذِبَ سلوكٌ قبيح، لا تقبله المُجتمعاتُ المُتحضِّرة؛ بل وترى فيه أزمةً أخلاقيةً كُبرى يتوجَّب الوقوفُ لديها، وفحصُ أسبابها ودوافعها، ومُحاسبة المُتورط فيها. أوقع الرئيسُ الأمريكي دونالد ترامب هزةً مُجتمعية لا تُنكَر؛ بسبب ادعاءاته الزائفة وتصريحاته العجيبة وأحاديثه المشكوك في صحتها. أُثيرَت ضده القضايا، فراح يدافع عن نفسِه نافيًا الكذب، مُتحدثًا عن حقائق بديلة لا يدركها أو يراها غيره، وغالبُ الظنّ أنها كانت المرةَ الأولى التي يستمع فيها الشعبُ إلى تعبير على هذا القدر مِن الغُموض والقدرة على الإرباك؛ بشأن توصِيف الحقيقة. على كلّ حال أعيد انتخابُ ترامب لولاية جديدة، ولم تكُن كذباته بعائقٍ أمام الناخبين في ضوءِ العواملِ الاقتصادية، والثقافية والاجتماعية، التي أثقلت كفَّته مقابل كفةِ مُنافسته؛ السَّيدة، الديمقراطية، المُلوَّنة، والمُتلوِّن برنامجُها وسلوكُها السياسيّ في الوقت ذاته.
• • •
ثمَّة قاعدةٌ تقول إن البيّنة على من ادَّعى؛ والمَعنى أن الفاعلَ أو المُدَّعي مُكلفٌ بأن يأتي بما يكفي من الشواهدِ والبراهين؛ وإلا كان ادعاؤه واهيًا، لا يُؤخَذ به. بعضُ المرَّات يتحقَّق الأذى عبر ادعاءاتٍ لا أسانيد لها ولا إثباتات تؤكدها.
• • •
أدى يحيى الفخراني دور البطولة في مسلسل للعدالة وجوه كثيرة، قصة مجدي صابر وإخراج محمد فاضل إنتاج عام 2001 وقد أعيد عرضه أكثر من مرة. البطل رجل أعمال ثري، يصنع من عائلته أسطورة، فيدعي الحَسبَ والنَسبَ للشيخ الأكرم صاحب العطايا والنفحات بل والمُعجزات، يقيم له الاحتفالاتِ السَّنوية ويُوزع من المالِ والذبائحِ ما يَفيض، يَبني في مَسقَط رأس العائلة المُستوصَفات والمدارس، ويضع كتابًا عن تاريخ أجداده ويتمسَّح في الرداءِ الشريف؛ إلى أن ينكشف ادعاؤه، ويتبين ألا وجود للأكرم العظيم، وأن البطلَ يتيم. بعض الأحيان لا تكفي الثروةُ الهائلةُ لتحقيق الشَبع المَطلوب؛ إذ يبقى الشعورُ الداخليُّ بالدونيَّة عصيًا على المُغالبة، مهمًا علا المرءُ وتحقَّق له النجاح، والحقُّ أن هناك دومًا من يدَّعي ما ليس له ولا فيه؛ رغبةً في رَسم صورةٍ براقةٍ مُبهرة تفتنُ المُحيطين به؛ فما أن يسقط ادعاؤه وتظهر الحقيقةُ عاريةً من كلّ زينة؛ حتى يصغُر وتهون قيمتُه ويَسقط من علٍ، لا بسبب تواضُع الأصلِ والجِّذر؛ بل لاستباحة الكَّذب والخِداع والتزييف.
• • •
يحمل المُدَّعي بالباطل في داخله خوفًا أكيدًا؛ ولو كان صاحب سُلطةٍ ونُفوذٍ وحِيلة واسعة. يَنبع الخوفُ من فقدانه الثقةِ في فِعله، ومن وجود الحقيقةِ التي لا بد وأن تنجلي في يوم الأيام؛ مهمًا طال الوقت وبدت مَنسيَّة بعيدة.