مهنة غدر بها الجميع - هنا أبوالغار - بوابة الشروق
الأحد 5 يناير 2025 5:08 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مهنة غدر بها الجميع

نشر فى : الجمعة 3 يناير 2025 - 7:25 م | آخر تحديث : الجمعة 3 يناير 2025 - 7:25 م

قانون المسئولية الطبية وحماية المريض المقترح - إذا تم إقراره بصورته الأولية - سيكون المسمار الأخير فى نعش المنظومة الطبية فى مصر ونهاية ما تبقى من الخدمة الطبية ذات الجودة .

من المهم لمن لا يعمل فى الطب أن يفهم أن الطب مهنة لم ولن تصنع ثروة، وأن الاستثمار فى مستشفى أو مركز طبى أو التجارة فى الأدوات الطبية، كانت دائما أكثر ربحا من مهنة الطب نفسها، وأنها مع ذلك كانت بحسابات اليوم بيزنس صغير الحجم لم يكبر إلا بعد أن دخلت فيه البنوك وصناديق الاستثمار والمستثمرون الكبار وأضافوا إليها الخبرات الإدارية والملاءة المالية، أى إن الجزء الأكبر من الأرباح لا تئول إلى ممارسى مهنة الطب ممن يعملون فى هذه الأماكن وإنما إلى من استثمروا فى إدارتها كخدمة يحتاجها المجتمع.

كان وما زال القطاع الطبى الخاص يسد عجزا حقيقيا فى عدد أسرّة المستشفيات والعناية المركزة والحضانات والعيادات والخدمات التشخيصية للمريض المصرى بدونها لن يجد مئات الآلاف من المرضى مكانا يخدمهم.

• • •

على من هو جاد فى حماية المريض المصرى أن يواجه السبب الأول والحقيقى فى عدم حصوله على خدمة جيدة وإلى فقد عشرات الآلاف من المرضى سنويا و«عدم الإتاحة». فلا وجه للمقارنة بين أعداد المرضى الذين يموتون من أخطاء مهنية على أيدى الطبيب وبين من يموتون لأنهم لا يجدون سرير مستشفى أو عناية مركزة أو حضانة لطفل مبتسر، هذا ينطبق على القطاع الحكومى والجامعى وأيضا على قطاع المستشفيات الخاصة. ومن يخشى على المريض المصرى ويرغب فى حمايته لابد أن يتعامل مع هذه الحقيقة أولا.

الخطر الثانى لمن هو جاد فى حماية المريض المصرى هو فقدانه للطبيبة أو الطبيب المصرى الشغوف النابه المجتهد الطموح ذى العلم والمهارة، فقد أصبحت هذه المهنة غير جاذبة لهؤلاء، وقد بدأت المشكلة بسياسات أدت إلى انهيار مستوى تعليم الطب فى مصر على مدار العقود الستة الأخيرة عندما قررت الدولة رغبة فى كسب شعبوية سريعة زيادة أعداد دفعة كلية الطب فى الجامعة الواحدة من ٢٠٠ طالب إلى ٢٠٠٠ طالب بنفس الإمكانيات، وذلك بدلاً من الاستثمار فى بناء جامعات ومستشفيات تستوعب أعداد الطلبة المطلوبة. فضلت الحكومات فى حينها الكم على الكيف، وكانت النتيجة فقدان شهادات بكالوريوس وماجستير ودكتوراه الطب المصرية مصداقيتها بين جامعات العالم، وأصبحت شهادتنا التى نفنى فيها كأطباء شبابنا وطاقتنا ونُحرم لأجلها من الاستمتاع بسنوات شبابنا وحياتنا الأسرية وأجمل سنوات عمر أطفالنا.

فى النهاية تحتاج كل هذه الشهادات إلى امتحان معادلة وسنوات مذاكرة وتدريب أخرى لأنها لا تُقبل لا فى الغرب ولا فى الشرق وهذا بالرغم من أن طلبتنا وأطبائنا ينبغون أينما ذهبوا سواء فى امتحانات أو فى أدائهم فى العمل. لم يكن هذا الوضع من ستين عاما فشهادة الجامعة المصرية كانت كافية لعملك كطبيب فى أى مكان فى العالم.

هذه مسئولية الدولة التى استولت على إدارة الجامعة المصرية وألغت استقلاليتها وفرضت عليها هذه الأعداد من الطلبة، ومسئولية نقابة الأطباء التى نسيت أنها حامى المهنة وركزت فى رفع المعاناة عن الطبيب الفرد بحلول اجتماعية مثل مشروع علاج الطبيب وتوفير شقق ومصايف بعيدا عن الحفاظ على قيمته سواء داخل مصر أو خارجها. فمصر قد فقدت أكثر من ثلث أطبائها بحثا عن هذا العلم الذى لم توفره لهم بلدهم فى السبعينيات والثمانينيات، والآن تفقد أكثر من النصف بحثا عن العلم والحياة الكريمة والاحترام والأمان.

هؤلاء الأطباء الآن يخدمون مرضى غير مصريين فى منظومة طبية يتمناها المريض المصرى، ويستحق الطبيب المصرى أن يعمل فيها فى بلده بدون أن يضطر إلى الاغتراب.

‏• • •

‏أضيف إلى ذلك أنه منذ بداية التسعينيات مع دخول التوك شوز والإعلام الشعبوى (Tabloid) وجد الطبيب المصرى نفسه مسئولا فى نظر المجتمع والإعلام والقانون عن ارتفاع سعر الخدمة الطبية للمريض وجودة هذه الخدمة. فكل يوم يسمع ويقرأ الطبيب عن «جشع الأطباء، عن إهمالهم، عن فقدانهم للرحمة، عن خيبتهم وسوء نتائجهم فى مصر..»، وهم أنبه طلبة مصر وأكثرهم طموحا واختاروا دونا عن ثلث زملاء دفعتهم أن يبقوا فى بلدهم ليعملوا فى ظروف تزداد سوءا.

العائد المادى مهم حتى يحيا الطبيب حياة مُرضية له ولأسرته، لكن المادة ليست سبب اختياره للطب، فهو فى الأغلب من أشطر طلبة مدرسته وأكثرهم طموحا وجدية فى العمل وما كان اختار هذه المهنة وهو يعلم أنه لن يصرف على بيته ونفسه قبل عشرة أعوام من التخرج فى كلية مدتها ٧ سنوات، بل إنه سيصرف على تعليمه أضعاف ما سيعود عليه قبل عقد على الأقل من شهادة الماجستير. وبالتالى فاتهامه بالجشع وفقدان الحس الإنسانى لا ينتج عنه سوى مرارة وإحساس بعدم التقدير.

نضيف إلى هذا إحساس الطبيب نفسه، الطبيب الذى يعمل فى تخصص يعتمد على الفريق مثل العناية المركزة، أطفال حديثى الولادة، الطوارئ، إلى آخره يجد نفسه مسئولا عن منظومة مستحيل يخرج منها نتائج على مستوى طموحه، فكل هذه تخصصات تعتمد على إدارة جيدة، أجهزة حديثة، وفرة المعامل والأدوية، ونظام صيانة هندسية دورية على مستوى عالمى، وكلها غير متوفرة فى مصر لأنها مهن مثلها مثل الطب تأثرت كثيرا بعدم الاستثمار فى قطاع التعليم والصحة على مدار العقود الستة الأخيرة.

ليست مسئولية الطبيب أن يراقب ولا أن يوفر ويحاسب عليها فى أى مكان آخر فى العالم لكنه يجد نفسه مسئولا أمام المريض والإعلام والقانون عنها وعن نتائجها سواء كان ذلك فى المستشفى الحكومى أو المستشفى الخاص أو الاستثمارى الكبير، والمريض لا يرى ولا يجد من يلومه سوى هذا الطبيب.

‏• • •

‏لابد من منظومة آمنة تحكم الطبيب والمريض والأهم أنها تحاسب المسئولين عن إدارة وتطوير القطاع الصحى. المضاعفات الطبية والخطأ المهنى مقبول بل تجنبه مستحيل فى كل مكان فى العالم ويقاس بمقياس طبى وليس قانونى، والطبيب والمستشفى لهم نظم تقييم دورية هدفها رفع مستوى المهنة والخدمة الطبية والتى هى فى الآخر الطريقة الحقيقية لحماية المريض. الطبيب هنا لا يعامل كمجرم وإنما يعامل كجزء من منظومة كلها قابلة للتقييم والتدريب والمراجعة الدورية، وهذا دور هام لنقابة المهن الطبية التى تعطى تصريح العمل وهى معنية بحماية «المهنة» وبالتالى تحمى المريض والطبيب معا.

هذه المراجعة لا يمكن أن تتم بشكل آمن فى النيابة من قبل من ليسوا متخصصين فى الطب، ومعاملة الطبيب مثل المجرم لن ينتج عنه سوى رفض الأطباء عن حق علاج الحالات الصعبة، بل أيضا رفضهم لاختيار تخصصات فيها نسبة مخاطر عالية، وذلك حقهم، والذى سيدفع الثمن هو المريض المصرى، ومهنة الطب التى ستفقد هذه المهارات.

‏• • •

كانت جائحة الكورونا كاشفة فى تقدير المجتمع والدولة للأطباء ومهنتهم، ففى بلد قدمت ما يزيد على ٥٠٠ طبيب شهيد لمهنتهم فى هذه الجائحة، خرج رئيس الوزراء يتهمهم أنهم سبب فى انتشار المرض، تصريح اعتذر عنه بعد ذلك لكن بعد أن وصلت الرسالة، بالتوازى استمر المجتمع على نفس المنوال فى لوم الأطباء وانتقادهم. وجد الطبيب نفسه يخدم فى مستشفيات عزل ثم يصاب هو أو اهل بيته بسبب خدمته هذه فيتحمل بمفرده مسئولية إيجاد سرير ودواء لنفسه أو لهم فى ظروف قاسية جدا إنسانيا لا يقدرها أحد. ما بين أنك تقوم بأداء واجبك ومهنتك التى تعشقها فى ظروف خطرة، وما بين أنك تخشى على أهل بيتك أو على نفسك ومن تعولهم. طوال الوقت فأنت بمفردك لا تساندك منظومة، ولا تحميك دولة، ولا يقدرك مجتمع.

لم يعد أحد من جيل الوسط فى الأطباء يشجع أبناءه على دخول الطب، ولم يعد أحد منهم يحلم بالعمل مثل أساتذتهم حتى السبعين والثمانين من العمر، فأطباء كثر فى الخمسينيات من عمرهم يفضلون غلق عياداتهم أو تقليص عملهم لأن الضغوط المادية والقانونية تجعل استمرار العمل غير مجدٍ خصوصا مع التعرض اليومى للإيذاء النفسى من قبل المرضى والإعلام.

الاستمرار فى تحميل الطبيب مسئولية المنظومة الصحية ما هو إلا حل سهل لتخلى المسئولين الحقيقيين عن صحة المصريين وعن دورهم وإصرار على عدم فهم أن الطبيب جزء من الخدمة، وهو جزء مهم جدا فيها لكنه ليس مسئولا عنها، وأنه بدون الطبيب (الذى يُشَرّف مصر فى كل مكان عدا مصر) سيكونون بالفعل صنعوا وضعا خطيرا للمريض المصرى. 

هنا أبوالغار أستاذ طب الأطفال بجامعة القاهرة
التعليقات