فى عالم التكنولوجيا كلمة «ديفولت/ Default» تعنى أن برنامج الكمبيوتر «يَفترض» أنك تفضل إعدادات بعينها فيبرمج بها الجهاز عند شرائك له، فمثلا يفترض إنك تستخدم اللغة الإنجليزية لأن الأغلبية من مستخدميه ومستخدماته فى العالم يفعلون ذلك وعلى من لديه لغة أخرى أن يغير «الديفولت».
«الديفولت المجتمعى» الذى يتم برمجتنا عليه هو إرث ثقيل من «المعتاد» أو «الأكثر شعبية»، أو ما تبيعه لنا «الميديا الموجهة» على أنه الأكثر جاذبية.
مشكلة هذه البرمجة أنها تتجاهل أن كل منا فريد ولن يتكرر إنسان بتركيبة عقلك وجسمك وروحك وأحلامك واحتياجاتك ومواهبك. إحدى أهم مسئولياتنا فى الحياة أن نتعرف على أنفسنا ونحاول أن نكتشف شغفنا الذى سنضيف به إلى الدنيا شيئا لن يستطيع سوانا إضافته فكل منا لم ولن يوجد مثله نسخة أخرى، فهناك ترتيب لا نهائى لمجموعة محدودة من الأحماض الأمينية داخل جيناتنا تجعل فردية كل مخلوق (ليس فقط بنى الإنسان) مؤكدة، وتجعل لكلٍ منا دورا يستطيع أن يلعبه بشكل مميز وخاص به يغير فى الإنسانية.
نعيش فى سباق مع أنفسنا والآخرين لتحقيق أهداف لم نضعها لأنفسنا، محطات أكاديمية، واجتماعية ومهنية واقتصادية لم نتوقف لمراجعتها أو حتى لترتيبها بما يتناسب مع رؤيتنا لأولوياتنا، أهداف نتوقعها من أنفسنا ويتوقعها الغير منا وأدوار توزع لنا على خلفية النوع (نساء أم رجال) أو ترتيبنا فى الأسرة (الطفل الأكبر والأصغر) أو مكان ولادتنا (الحضر أو الريف) إلخ. نولد وجزء كبير من «أهدافنا فى الحياة» و«أولوياتنا» أقرب إلى ثوابت أصبح تحقيقها يساوى «النجاح» ويترجم إلى درجات من رضا الإنسان عن نفسه واحترام المجتمع له وإحساسه بالتحقيق.
نجاح الطالب أو الطالبة فى اجتياز المراحل بدرجات عالية ما هى إلا أرقام تترجم قدرات على الإجابة فى الامتحان وليس بالضرورة إلمامه بالمادة، هذا الطالب مبرمج أن يلتحق بكلية تحقق له وضعا اجتماعيا وفرصة للأمان الاقتصادى، لكنها لا تحقق بالضرورة الشغف والمتعة (لأن هذا هو النجاح).
الطالب يركب قطار التعليم فى الحضانة ويظل محبوسا داخله بدون فرصة حقيقية للتفكير فى أى محطة يفضل النزول، مهن كثيرة تحرم من الشغوفين بها لأن برمجتهم تمنعهم حتى من التفكير فيها. مثل واضح هو مهنة التعليم إن كنت شغوفا بها تجدها ممتعة: فأنت تتعلم طوال عمرك وتطور قدراتك للتواصل مع العقول الشابة، فيها فن وفيها مهارات استعراض وفيها بهجة، وتغير بها مستقبل أفراد ومجتمع وأمة. وإن لم تكن شغوفا بها، تمل من التكرار وترهق من التعامل مع الأطفال لا ترى فيهم سوى الإزعاج وقلة النظام وتساهم فى تخرج أجيال تكره العلم والتعليم.
صفحة العلاقة الزوجية فى «كتالوج النجاح» تنص على شرطين للنجاح الأول: البقاء فى الزيجة، بمعنى استمرار العقد المبرم بينهما. الشرط الثانى: تواجد الطرفين داخل مسكن واحد. عندما تكون هذه هى مقاييس نجاح العلاقات ينفتح باب مخيف لعلاقات خالية من المودة والرحمة والرضا لكنها تصدر على أنها «ناجحة». قد يكون النجاح فى أحيان كثيرة هو القدرة على إدارة الخلافات بشكل محترم وعادل وفيه مودة ورحمة حتى إذا اتفقا على الانفصال.
فى دوائر العمل يقاس النجاح بالأرقام «التارجيت» أو «الهدف» بلغة الشركات، الموظف يبيع «عددا» من المنتج، يتصل «بعدد» من العملاء، يكشف على «عدد» من المرضى إلخ، وطبعا يترجم هذا كله إلى أرقام فى مرتبه وفى تسلسله الوظيفى وترقيه. ماذا لو اعتبرنا النجاح هو سعادة الموظف فى عمله، أو اعتذاره عن الترقى لأنه سيأخذ من وقت فراغه فيؤثر على أسرته أو هوايته، بالتأكيد لن يرى كثيرون أن هذا نجاح!
خسر العالم الكثير عندما حدد لنا مفهوم النجاح، وكل منا خسر أكثر عندما صدقناه.
البحث عن الشغف ليس رفاهية فاجتهادك فى البحث «نجاح».
«إن تكن تبحث عن مسكن الروح فأنت روح، وإن تكن تفتش عن قطعة خبز فأنت الخبز، وإن تستطع إدراك هذه الفكرة الدقيقة فسوف تفهم أن كل ما تبحث عنه هو أنت». جلال الدين الرومى
أستاذ طب الأطفال بجامعة القاهرة