أعيدوا إلى مصر يومها الدراسى - هنا أبوالغار - بوابة الشروق
الإثنين 27 يناير 2025 12:12 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

أعيدوا إلى مصر يومها الدراسى

نشر فى : الأحد 26 يناير 2025 - 7:00 ص | آخر تحديث : الأحد 26 يناير 2025 - 7:01 م

هل لاحظت عزيزى القارئ أن الانتظام فى اليوم الدراسى لم يعد أمرا أساسيا؟ فى المدارس الحكومية أو الخاصة أو حتى المدارس الدولية يغيب الطلبة يوما أو اثنين أو أكثر من المدرسة أسبوعيا فى المرحلة الابتدائية، وهذه الظاهرة تزداد فى إعدادى وثانوى حتى إن هناك فصولا فى الثانوية العامة الحكومية لم تفتح منذ سنوات، فمعظم هؤلاء الطلبة يعتمدون على الدروس الخصوصية لتحصيل المادة العلمية وبالتالى لم يعد الحضور فى المدرسة مهما.
بدأت هذه الظاهرة عندما اتخذ أصحاب القرار خطوات لتحقيق حلم وحق هام للإنسان المصرى وهو توفير مكان فى المدارس لكل طفل مصرى. لكن بدون الاستثمار فى المدارس والتوسع فى تخريج معلمين وتوفير موارد لإدارة هذه المدارس بمستوى يحافظ على التعليم المصرى، وبدلاً من معاملة هذه القضية كمشروع قومى يحمى الوطن ويبنيه لأجيال ويحقق لمصر منظومة تعليمية يستحقها شعب مصر وتتناسب مع دورها التاريخى كرائدة للعلم والثقافة فى الوطن العربى، كان الأسهل والأسرع والأكثر شعبوية لأصحاب القرار هو تقسيم اليوم الدراسى إلى فترتين بغرض استيعاب أضعاف أعداد الطلاب، وبجرة قلم انخفضت عدد الحصص وساعات الدراسة للطالب المصرى إلى النصف على حساب تعليم جيد، فاستبدلنا جودة التعليم بإتاحة تعليمية كاذبة، فمن حق كل مصرى مكان فى المدرسة لكنه أصبح لا يتعلم.
مع الوقت لم يعد هذا التدخل كافيا فزادت أعداد الطلبة فى الفصول بما جعل العملية التعليمية فى ظل انخفاض الساعات الدراسية هزلية للطالب والمدرس وأصبح كلاهما مدركا تماما أن الذهاب إلى المدرسة ما هو إلا تمثيلية وأن التعليم الحقيقى يحدث خارج المدرسة (إذا سمينا الدروس الخصوصية تعليما).
• • •
ما أود أن أركز عليه فى هذا المقال هو تأثير هذا على الشخصية المصرية وتكوين الأسرة، فهذا الطالب حرم هو وزملاء جيله الحياة المدرسية النظامية التى تؤسس للشخصية والتى تشارك الأسرة فى التربية التى تربط بين شباب الجيل الواحد فتكون تجاربهم ومهاراتهم والكثير من قيمهم موحدة، لأنهم عاشوا وتشاركوا طفولة مشابهة، ففى المدرسة يتعلم الطفل الاختلاف، فزملاؤه المسلمون والأقباط، ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية متباينة لكن فى إطار الزمالة والطفولة يكونوا صداقات. هذه الطفولة تنتهى عند ١٨عاما هى فرصتنا فى بناء جيل متجانس يرى ويسمع ويحترم الاختلاف يربطه حبل تعليمى وثقافى ومفاهيم هوية متشابهة.
طابور الصباح يعلمنا النظام واحترام دور من سبقنا والصبر على دورنا (هذا الصبر الذى لا نرى له أثرا فى مجتمعنا اليوم)، جرس الحصة يعلمنا احترام المواعيد، الواجب المدرسى يعلمنا تسليم عملنا فى موعده وإتقانه، فسحة الأكل تعطى فرصة للمدرسة أن تؤثر على اختياراتنا وميولنا الغذائية والصحية، حتى دورات المياة فى المدرسة النظامية (وهذا ليس خيالا وإنما هو فى صميم التربية والتعليم) تعطينا فرصة لتعليم جيل كامل النظافة الشخصية والوقاية من الأمراض وخصوصية الجسد، من المريلة نتعلم أن نهتم بمظهرنا وهندامنا أياً كانت ظروفنا الاجتماعية، فالمريلة تجمعنا لكن نظافتها وانضباطها يتم مراجعتهم.
فى المدرسة يتعلم الطالب أنه جزء من الكل فهو ليس محور الكون، نتعلم أن نرفع يدنا وننتظر دورنا لنتحدث وأن نستمع إلى زملائنا ولا نندفع لفرض إجابتنا عليهم. هى فرصة لمن ليس لديه حظ الاشتراك فى نادى رياضى ليمارس الرياضة ويتعلم اللعب فى فريق ومعنى المنافسة الشريفة. ودرس الرسم نتذوق فيه الفن وفيه تكتشف المواهب التى ستحرم منها مصر إن لم ينتبه لها المعلم الشغوف، كذلك حصة الموسيقى. كلها حصص تم الاستغناء عنها أو اختصارها بسبب قصر اليوم المدرسى.
• • •
مع انهيار اليوم المدرسى النظامى انعدم دور المعلم التربوى فهذه الظروف يستحيل معها خلق تواصل إنسانى مع الطالب، فالأعداد وقصر مدة اليوم الدراسى حرمت المدرس من ممارسة جزء مهم من مهنته وهو ما أذى المهنة كثيرا. دور المعلم فى تشكيل الشخصية عابر للزمان والمكان منذ تجمع طلاب المعرفة حول شخص عنده الموهبة والكرم لكى يوصل مخزونه العلمى وحكمته الإنسانية إليهم. كان الأستاذ يملأ فراغ الأسرة حين تتعرض للأزمات وفى عصرنا هذا الملئ بالتحديات الاقتصادية والاجتماعية مازال هناك احتياج كبير لملء هذا الفراغ الذى فقدناه. تحول المدرس إلى مقدم خدمة فى المدرسة والدروس الخصوصية والمجمعات التعليمية المسماة بالسناتر، هدفه تحصيل طالبه على الدرجات وليس العلم، أما هو فهدفه دخل يؤمن به حياة كريمة لأسرته، وفقد شغف المهنة وحلاوتها.
انعكس هذا على البيت المصرى فأصبح السهر حتى الساعات الأولى من النهار القاعدة وليس الاستثناء، أصبحت النوادى تضع مواعيد التمرين للفرق الرياضية فى المساء فيعود الطفل منها بعد العاشرة مساء، كذلك الدروس الخصوصية، غير مراعية احتياج الطفل للراحة وكأن المعلم والمدرب والآباء مُحِىَ من ذهنهم دورهم التربوى فى تنظيم يوم الطفل.
نتج عن هذا جيلين ونحن على وشك الدخول فى الجيل الثالث، تخرجوا من مدارس أعطتهم شهادات لكنها لم تشارك فى تربيتهم. فهم لم يتعودوا على الانضباط ولا على الالتزام بموعد تسليم العمل، يحسون أن الاستيقاظ مبكرا ثقيل عليهم وأن إدارة الوقت شعار لا معنى له، فجرس الحصة لم يترك علامة فى ذاكرتهم. تقييم الأداء والاعتزاز بجودة ما يفعلونه سواء كان دراسة أو مهنة أو حرفة لا يترجم إلا إلى أرقام (إما درجات أو فلوس) لأن فى طفولتهم لم يرتبط الجهد إلا بالأرقام فلم يتذوقوا طعم الفصل الدراسى وإثراء المعلم وإعجاب الأصدقاء بهم. حتى التقييم فى امتحانات المدارس كثيرا ما يشوبه التساهل وأحيانا الغش الفردى أو الجماعى وهو فى الثقافة المدرسية منذ عدة أجيال مقبول إلى حدٍ كبير وتم التطبيع معه على أنه نوع من الفهلوة من الغشاش والجدعنة ممن يغش منه. وبالتالى يصل الطالب إلى سن العمل وهو يرى فى التقييم غلاسة وفى الدقة حسوكة.
• • •
هذه المهارات والقدرات فقدها المجتمع المصرى فى رأيى بسبب انهيار اليوم المدرسى. فقد الطفل طفولة سعيدة، والشاب فرصة تحقيق مراده فى الدنيا، وفقدت مصر مخزونا هائلا من الطاقة والموهبة والذكاء بسبب تربية أجيال من المصريين خارج منظومة تعليمية ترعى وتربى وتلعب دورا فى الوالدية يدا بيد مع الأسرة.

أظن أن حل أزمة التعليم فى مصر لا علاقة لها بالمناهج ولا بدخول أو خروج إحدى المواد من المجموع، الحل هو إعادة الطفل المصرى إلى المدرسة بشكل حقيقى وليس صورى؛ ثمانية ساعات يوميا خمسة أيام فى الأسبوع عشرة أشهر فى السنة لمدة الاثنى عشر عاما التى يتشكل فيها وجدانه وشخصيته.

أعيدوا إلى مصر مدرستها.. تعيدوا إلينا الأمل فى الغد.

 

هنا أبوالغار أستاذ طب الأطفال بجامعة القاهرة
التعليقات