يوم الأربعاء الماضى حضرت فرحين لأبناء صديقين عزيزين، الأول فى أحد منتجعات مدينة العبور، والثانى فى نادى ضباط الشرطة بالزمالك.
كنت سعيدا بحضور الفرحين، لأنها فرصة نادرة للخروج المؤقت من جو ومناخ التراجع والاكتئاب الذى يلف معظم المنطقة العربية.
لا أكتب هذه السطور للحديث عن حياتى الخاصة، ولكن لإلقاء الضوء على ظاهرة مهمة وهى الأغانى التى يتم ترديدها فى الأفراح.
فى أفراح سابقة كنت قد لاحظت أن غالبية من يقولون عن أنفسهم إنهم نخب ومثقفون ويتعالون على أغانى المهرجانات يقومون بترديد هذه الأغانى والرقص عليها فى أفراحهم.
لست ماهرا فى حفظ الأغانى وحينما أذهب إلى الأفراح فى السنوات الأخيرة فإننى من الممكن أن أردد بعض أغانى محمد منير وعمرو دياب ومدحت صالح وعلى الحجار، لكن المشكلة أن غالبية الأفراح هذه الأيام لم تعد تردد أغانى هؤلاء المطربين وأمثالهم، بل مطربين أو مؤدين مختلفين لا أعرف معظمهم بل أسمع بعض أغانيهم فى الأفراح أو التاكسيات.
مثل كثيرين كنت أنظر بتعال لهؤلاء إلى أن زرت لبنان عام ١٩٩٠ لحضور مؤتمر الشباب القومى العربى الأول فى بعلبك، يومها ركبت أتوبيسا مع مجموعة من المقاتلين الفلسطينيين وفوجئت بهم يرددون أغنية حسن الأسمر الشهيرة «كتاب حياتى يا عين»، التى كان ينظر إليها المثقفون المصريون باعتبارها أغنية هابطة لا تليق بهم. قلت لرفاق رحلة الأتوبيس: كيف لمناضلين مثلكم أن يرددوا هذه الأغنية؟
إجابتهم صدمتنى وقتها، وقالوا إن هذه الأغنية تعبر عنهم أفضل تعبير. من يومها بدأت أعيد النظر فى قناعاتى واكتشفت أنهم كانوا الأصدق، وكانت نظرتى خاطئة.
وعدت للقاهرة، واشتريت هذا الشريط لحسن الأسمر ووقعت فى غرام هذه الأغنية وما زلت أراها متميزة.
لا أفهم معظم أغانى المهرجانات ولا أميل إلى معظمها. وعلاقتى بالغناء شديدة الكلاسيكية، فالمفضلون بالنسبة لى فيروز وشادية وعبدالحليم وعبدالوهاب وأم كلثوم ومارسيل خليفة وعفاف راضى ومحمد منير ومحمد قنديل وماجدة الرومى.
ورغم ذلك، فغالبية الناس الذين يحضرون الأفراح خصوصا الشباب يعجبون ويفتنون ويرقصون ويحفظون أغانى المهرجانات. وبالتالى فالعقل والمنطق يحتمان على أى عاقل أن يحترم رغبات وميول هذه الجموع التى تفضل هذه المهرجانات.
لو أن أى مثقف - إذا كان مثقفا بجد - يسخر من هؤلاء ويرى أنهم أقل منزلة، فلماذا لا يبذل هو وأمثاله جهدا ليقدم فنا راقيا ليجذب به هذا الجمهور؟!
الأمر ببساطة أن هؤلاء المطربين أو المؤدين للمهرجانات - سواء أحببناهم أو كرهناهم - لهم جمهور كبير، وأبسط مبادئ الموضوعية أن نحترم رغباتهم وأذواقهم وميولهم، ولا يمكن أن نفرض عليهم أن يحبوا ما نحب وأن يكرهوا ما نكره.
صحيح أن بين بعض مطربى المهرجانات أصواتا نكرة وبلا قيمة، وتسىء للذوق العام من وجهة نظرى، لكن من قال إننى أو غيرى نحتكر تعريف الذوق العام؟! أليس من حقهم هم أيضا أن يقولوا إن ما أحبه أنا أو غيرى قديم ومتخلف و«مجعلص»!
مفهوم راق أو متدن وهابط نسبى ومتغير، وما أراه أنا راقيا قد يراه غيرى هابطا، وما أراه أنا متدنيا، قد يراه آخرون أفضل ما يعبر عنهم.
وبالمناسبة فأحد المشاكل الكبيرة فى ذهنية الكثيرين هو أنهم يحصرون الغناء بين أم كلثوم والغناء الكلاسيكى أو حمو بيكا والمهرجانات، ويغفلون أن هناك أنواعا كثيرة من الغناء بينهما، وأن عددا كبيرا من الشباب يسمعون الراب والتكنو وأنواعا كثيرة لا أعرفها.
وبالمناسبة أيضا فإن قطاعا كبيرا من المجتمع فى الخمسينيات والستينيات كان ينظر لإسماعيل ياسين وشكوكو وأمثالهما باعتبارهما ضد الذوق الراقى، ثم صارا أيقونات للفن، وتكرر نفس الأمر مع أحمد عدوية فى السبعينيات، وحسن الأسمر فى الثمانينيات والآن ننظر إليهم باعتبارهم ملوك الفن الشعبى المحترم.
وبنفس القياس فربما ينظر الجيل القادم إلى حمو بيكا وكزبرة وشاكوش وغيرهم باعتبارهم كلاسيكيين.
مرة أخرى وبغض النظر عن رأينا فى أغانى المهرجانات فالإنصاف يقتضى أن نحترم رغبات الناس، وألا نتعالى على أذواقهم.
وكما قال لى صديق عزيز كان موجودا فى فرح العبور إنه يحب الأغانى الكلاسيكية لكنه يقدر ويحترم أغانى المهرجانات وأصحابها ومعجبيها رغم أنه يتحفظ على بعض الألفاظ الخادشة فيها.
هو يؤمن بأن كل الأنواع والأصوات لابد أن تكون موجودة، فالثقافة تحتاج للتنوع والحرية. هذا الصديق فكرنى بأن العظيم عبدالوهاب أشاد بفن أحمد عدوية الذى رحل عنا قبل أيام قليلة.
ختاما فهذه الأغانى جزء من إبداع المصريين فى لحظة زمنية معينة، ومن كان يزعم أنه يحتكر الإبداع الأرقى، فعليه أن يقدمه للناس ويقنعهم به.
وعام سعيد على الجميع.