طشة ملوخية فى بيت عدوية - سيد محمود - بوابة الشروق
الجمعة 3 يناير 2025 8:57 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

طشة ملوخية فى بيت عدوية

نشر فى : الثلاثاء 31 ديسمبر 2024 - 6:50 م | آخر تحديث : الثلاثاء 31 ديسمبر 2024 - 6:50 م

 

ذكرنى موت الفنان أحمد عدوية بكتاب شاركت فى كتابة أحد فصوله بدعوة من أستاذى المؤرخ المرموق الدكتور محمد عفيفى تحت عنوان (التاريخ والموسيقى) وهو خلاصة مشروع بحث وقفت خلفه المؤسسة الثقافية السويسرية وقت أن كانت ترأسها الدكتورة هبة شريف الباحثة المرموقة فى مجال الدراسات الثقافية.

عند انطلاق المشروع 2010 اقترحت كتابة فصل عن عدوية كمدخل لقراءة التحولات التى مرت بها مصر منذ السبعينيات وحتى الآن، لكن الاقتراح  قوبل بالكثير من المعارضة من قبل الأكاديميين وهى معارضة كانت تجسد فى تقديرى أزمة تاريخية عاشتها النخبة فى تعاطيها مع عدوية لكن حماس هبة شريف ساعد فى دفع الفكرة إلى الأمام.

اتصلت بعدوية ورحب بى ترحيبا كبيرا، وداخل بيته بحى المعادى أجاب عن تساؤلاتى بأريحية تامة وكان كلما رغب فى التأكيد على كلامه ينادى زوجته نوسة التى تأتى وتجلس معنا لعدة دقائق ثم تعود إلى مطبخها تستأنف ما تفعل.

مرت عدة ساعات لم أنتبه فيها للوقت إلا حين شاعت فى البيت رائحة «طشة» الملوخية الأمر الذى أشعرنى بالحرج ودفعنى للاستئذان وطلب الانصراف، إلا أنه أقسم بالله واستحلفنى لكى أبقى وأتغدى معه ومع زوجته التى ذكرتها ساخرا بتحقيق صحفى اتهمها بأكل شيكولاته بـ300 جنيه فى الأسبوع وذلك أوائل الثمانينيات.

بطبيعة الحال أنكرت نوسة القصة جملة وتفصيلا وكنت أتوقع أن تتهم الصحافة بالافتراء عليها وعلى زوجها لكنها فاجأتنى بالتأكيد على الدعم الكبير الذى قدمته الصحافة للعائلة حين عاش عدوية محنته الكبرى وقالت لى: «كفاية قوى اللى كتبه الأستاذ أحمد بهاء الدين فى الأهرام واللى عملوه الجماعة بتوع  روز اليوسف مفيش حد قصر معانا».

حمل صوت السيدة المصرية الجدعة نبرة رضا لا يمكن نسيانها، كما لا يمكن نسيان يدها الحانية وهى تربت على كتف زوجها من حين لآخر لتتأكد أنه يجلس على مقعده بطريقة صحيحة.

قبل ذلك بنحو عامين تحدثت مع عدوية للمرة الأولى حين دعوته لتصوير برنامج تلفزيونى كنت أكتبه وتقدمه الزميلة علا الشافعى لكنه اختصر الحوار التليفونى قائلا: «رتب مع نوسة هى كل حاجة».

واحترمتها أكثر حين جاءت معه إلى مكان التصوير ووجدت أنه فى (عوامة) نيلية لكنها رفضت النزول بإصرار لأن الحالة الصحية لزوجها لا تسمح له بتحمل الاهتزاز فوق سطح الماء.

ليلتها ظن مدير الإنتاج أن المدام تماطل من أجل طلب المزيد من المال وحاول أن يغرى بدفع مكافأة أكبر مقابل ظهوره، لكنها رفضت أى حديث عن الفلوس، مؤكدة أن ما يعنيها هو صحة زوجها فعدوية لابد أن يظهر أمام جمهوره وهو فى حالة طيبة وبالفعل نقلنا التصوير إلى مقهى قريب استجابة لطلبها.

قبل عدة شهور ماتت نوسة، وتوقع الجميع أن يلحق عدوية بها بسرعة لأنه لن يتحمل الحياة دون حنانها.

اليوم يفتح موت عدوية الكثير من الجروح، لأنه كشف مأزق النخبة الثقافية التى وقفت ضده رغم ادعاء قدرتها على تمثيل المهمشين والتعبير عن طموحاتهم وآمالهم، وتتأكد معه المسافة القائمة بين «ثقافة النخبة» باعتبارها «سلطة مهينة»، وثقافة الجماهير التى كانت تبتكر دائما وسائلها للمقاومة الذاتية.

فى تجربته الطويلة زحزح عدوية التصور الشائع عن الغناء الشعبى وقدم الدليل الأكبر على قدرة الهامش على مواجهة المتن الرسمى والإصرار على تقديم هوية ثقافية بديلة.

وراهن على المتعة والبساطة ووصل للناس دون حواجز، وبنى أسطورته دون أية ادعاءات وكشف فى المقابل عن تخلف الطليعة المثقفة وعجزها عن قراءة التحولات إلى جانب فشلها فى متابعة الإنتاج الفكرى فى العالم. ساهم انتعاش دراسات النقد الثقافى فى إبراز أهمية ثقافة الوسائط الجديدة التى نسفت التمييز الأكثر قدما بين الثقافة الرفيعة وبين ما يسمى الثقافة الشعبية أو الجماهيرية، بل قامت بدمجهما معا إلى درجة أنه أصبح من الصعب رسم الحد الفاصل بين الفن الرفيع والأشكال التجارية، كما تم إلغاء الحد الفاصل بين النخبوى والشعبى، ومحو الحدود الفاصلة بين الفن والحياة اليومية.

وزال كذلك التسلسل الهرمى بين الراقى والجماهيرى. وانهارت فكرة (الفوق/ تحت) التى كانت تعبر عن نسق ثقافى ممتد ومتأصل تتجدد لغته ويتجدد ممثلوه بسبب (ديمقراطية الوسيط) التى ولدت مع الميديا الجديدة، فقد المثقف دوره الذى ظنه قياديا لأن الناس صارت تقول رأيها مباشرة عبر الوسائط الجديدة وتعبر عن ذوقها مباشرة دون حاجة لوسيط، لم يعد الناس بحاجة إلى أنبياء أو أوصياء، إنهم يستطيعون أن يتوصلوا إلى قناعاتهم من دون تدخل من أحد ومن دون شخصيات كبرى وأرواح عظيمة.