زرت مرسم الفنان التشكيلى السودانى، صلاح المر، فى حى العجوزة قبل حوالى خمس سنوات، وبخلاف حضوره الإنسانى العذب الذى قادنى إلى صداقته، لفت نظرى جدًا حجم وطبيعة الأشياء التى يجمعها من الأسواق الشعبية فى العالم وهى على تنوعها لم تكن تمثل مصدر إزعاج، كما يستحيل وصفها بالكراكيب لأن صاحبها كان واعيًا بمكان كل قطعة مهما بلغ حجمها.
وبفضل الطريقة التى كان يتحدث بها عن فكرة الاقتناء وما تمثله عنده من معانٍ نبيلة أثار شغفى بهذا الماضى المعطل عن أداء وظيفته، يجرد المر فكرة اقتناء القديم من معانى الامتلاك، لأن ما يفعله يقف على العكس من ذلك تمامًا، فقد اعتاد أن ينزع عن الأشياء قيمتها المادية الظاهرة أمام الجميع، ويسعى قاصدًا إلى تجريدها مما كانت عليه من علامات ويعيد تدويرها فى سياق جمالى جديد يمنحها روحًا تحررها من أسر الارتباط بهذا الماضى.
قبل تلك الزيارة كنت أتابع صفحته الشخصية على فيس بوك، وأنظر فى الصور التى يضعها أحيانًا وكانت فى غالبيتها مما جمع من أسواق الأنتيكات، وبعد أن تحولت سوق سينما ديانا بوسط القاهرة إلى نقطة لقاء لعشاق الماضى يوم السبت من كل أسبوع حافظ المر على عادته فى زيارة السوق وجمع ما يرغب فيه من مقتنيات ظلت فى معظمها من الصور الفوتوغرافية ذات الأحجام المختلفة.
كنت أتساءل عما يسعى إليه الفنان إلى أن فاجأ الجميع بمعرضه (احتفالية القرد والحمار) الذى تشهده حاليًا قاعة بيكاسو بالزمالك وهو معرض فريد من نوعه، ليس فقط لأن صاحبه فنان تشكيلى مميز له إسهامات كبيرة فى فن التصوير، بل لأن المفهوم الفلسفى الذى يقف خلفه يتسم بالحرفية والابتكار.
يستند المعرض على مفهوم الذاكرة الشخصية المتمثل فى عمل الفنان على استلهام أعمال من أرشيف استوديو التصوير الخاص بوالده وهو ستديو كمال الذى كان قائمًا فى الخرطوم، وأعاد الفنان بناء نسخة جديدة منه داخل قاعة أخرى ملحقة بالمعرض، استطاع أن يحتفظ فيها بالأرشيف والديكورات قطع الأثاث وكل مفردات المكان القديم، ثم قام بتوليفها فى سياق جديد جمع بين لحظتين فارقتين، ومن ثم أصبح المعرض فى تكوينه أقرب إلى معارض الفن المعاصر ذات النزعة المفاهيمية والتى تقوم على خلخلة المعانى القديمة ومساءلتها أيضًا.
لو استعملنا تعبيرات نقاد الأدب فإن هذا المعرض يقوم على صورة من صور التفاعل النصى أو (التناص) بين لحظتين زمنيتين تنتميان إلى زمنين مختلفين، الزمن الأول لصورة فوتوغرافية قديمة من عالم الأبيض والأسود وهى تصور مشهدًا عاديًا له طابع عائلى وربما يستثمر فى الذكريات المشتركة التى لم يعد لها وجود، أما الزمن الثانى فهو زمن معاصر شيده الفنان صلاح المر من خلال لوحات تصويرية تطابق المشاهد التى تنقلها الصور الفوتوغرافية عبر نمط من أنماط المحاكاة، ولكن الفنان يضيف عنصرًا جديدًا لا وجود له فى الفوتوغرافيا ربما بغرض الإضافة التى يرغب فى تأكيدها والمتمثلة فى تحرر الفوتوغرافيا من ماضيها المؤطر بالحنين وأخذها إلى حاضر جديد يكمن فى ما تطرحه اللوحة من حيوات وبدائل أخرى.
وربما انتقل الفنان بفضل هذا الحل التقنى من عتبة التناص إلى أفق المفارقة بمعناها الفلسفى، وانحاز غالبًا إلى عنصر (الباروديا) أو المحاكاة التهكمية الأقرب إلى مفهوم اللعب الفنى وهى الأكثر ملاءمة للعنوان الفانتازى الذى اختاره.
تعزز خيارات الفنان فى الألوان وفى نسب تجسيد أبطال لوحاته من رغبته فى تأكيد فكرة الكرنفال التى تحدث عنها المنظر الروسى ميخائيل باختين فى حديثه عن فكرة الاحتفال، ومما يؤكد ذلك أن الفنان استوحى اسم معرضه من أحد كروت البريد القديمة الذى كان يحمل عنوان «احتفالية القرد والحمار»، وكان بمثابة دعوة لإحدى عروض مسرح الشارع، الذى يجمع عروض الأراجوز والقرداتى ومن هذا الكارت استوحى إحدى لوحاته وجعلها عنوان معرضه.
بالغ منظرو الفوتوغرافية فيما تثيره الصور القديمة من تساؤلات وثيقة الصلة بفكرة الحنين، لأن الصور لا تفقد الكثير من ميزتها الجوهرية حين يعاد إنتاجها، لكن ما أراد صلاح المر تأكيده يتعلق أكثر بمفهوم الذاكرة المشتركة وهو مفهوم يصعب فصله عن اللحظة الراهنة التى تجسدها الحرب الدائرة، كما أنه وثيق الصلة بفكرة (الهوية) التى باتت مهددة كذلك.
فى كتابها المهم حول الفوتوغرافيا تقول الروائية الأمريكية، سوزان سونتاج، أن الصور منحتنا الشعور بإمكانية استيعاب العالم كله فى أذهاننا، فعبر جمع الصور الفوتوغرافية نضع العالم فى أدراجنا لكن الصور تبقى على الرغم من ذلك واحدة من أكثر الأشياء غموضًا فى علاقتها مع الذاكرة، فهى تكثف البيئة التى نعرفها، وتكفل ما تسميه سونتاج تجربة الاستيلاء، الكاميرا هى السلاح المثالى للوعى وفى طبعه المحب لتملك اللحظة.