بفعل تعاظم دور وسائط التواصل الاجتماعى، أصبح اليوم «إلغاء» شخصية ما، أو علامة تجارية أو مؤسسة، بسبب موقف أو رأى صادر عنهم لا يوافق توجه فئة ما، أمرًا سهلًا.. إنها ثقافة «الإلغاء»، التى تعكس ممارسة جديدة، للاحتجاج والتنديد بسلوك أو آراء الناس؛ وهو تنديد لا ينحصر فقط، فى الإدانة اللفظية، وإنما المطالبة بمعاقبة الآخر والتشهير به، بشكل مبالغ فيه بحسب الخُبراء، إلى درجة أصبح معها رواد ثقافة الإلغاء، قضاة يمارسون «عدالة» على حسب أهوائهم.
لا شكّ أنّ المساءلة أمر مرغوب فيه، لكبح رعونات الأفراد والكيانات السياسية وكل متسلط أو متهور، لكن ثقافة الإلغاء، ليست مجرد «مُساءلة»، وإنما إصدار لأحكام الإدانة من دون الاستناد إلى أدلة كافية ومن دون تمكين الآخر من حقه فى الدفاع عن نفسِه ووجهة نظره.
إن «القصاص» الذى يمارس عبر ثقافة الإلغاء، لا يستند فى الغالب، إلى موقف أخلاقى حقيقى وعملية إجماع، بحيث تعرضت شخصيات "للإلغاء"، مثل الكاتبة ج.ك. رولينج، بسبب تعليقات اعتبرت أنها ضد الشواذ جنسيًا؛ فأصبحت ثقافة الإلغاء داعمة للنسبية الأخلاقية، أو لنقل رفض الاتفاق حول مرجعية أخلاقية؛ وهذه من مفارقات هذه الثقافة، لأنها تدافع عن خليط من القضايا المتضاربة.
هناك من يعتبر ثقافة الإلغاء، ثقافة الغوغاء التى مكنتها تكنولوجيا الإعلام الجديد، من الإفصاح عن جهلها ومواقفها غير الرشيدة؛ وبالتالى بروز أصوات فئة عريضة من جيل زد (Z)، سهلة الانقياد والتأثر بالشائعات والأخبار الكاذبة.
لقد اتسع نطاق تداعيات «ثقافة الإلغاء»، إلى درجة اعتماد المحافظين فى ولاية فلوريدا، فى مؤتمرهم السنوى، شعار «أمريكا من دون إلغاء»، وفى ذلك إشارة واضحة إلى إدانة ممارسة الأعضاء «الديمقراطيين» و«التّقدميين»، لسياسة الإفشاء السّياسى ومهاجمة رموز اليَمين الأمريكى.
وبذلك، أصبحت «ثقافة الإلغاء» لعبة سياسية خطرة، تعكس نوعًا من الاستقطاب السياسى فى المجتمع الأمريكى، بل من شأنها توسيع نطاق ومجال الانقسام. وصرحت زوجة ترامب، ميلانيا بأنها عانت من «ثقافة الإلغاء»، وبأنها مستهدفة هى وابنها، حيث أغلِق حسابها من مصرف كان يتعامل معها لسنوات، فقالت: «من المؤسف أن نرى الخدمات المالية تُمنع بناء على الانتماء السياسى»، كما جرى مع انسحاب شركة التكنولوجيا الرائدة من برنامجها «رعاية المستقبل»، مضيفة أن جماعة الإلغاء الآن، تشمل الشركات ووسائل الإعلام التقليدية، والشخصيات المؤثرة فى وسائل التواصل الاجتماعى، والمؤسسات الثقافية، الإلغاء لا يزال مستمرًا، وهى سمة من سمات الأعمال التجارية الكبيرة والصغيرة التى لا تزال تُدهشنى.
لقد تأثرت حياة عدة شخصيات سياسية وأدبية وفنية بثقافة الإلغاء وبشكل سلبى، إلى درجة انتحار أحد أساتذة الجامعة فى أمريكا، بسبب نسْف مساره المهنى عبر التشويه والنقد والاعتراض عليه، من طرف رواد ثقافة الإلغاء.
وصرح الرئيس فلاديمير بوتين، بأن روسيا تتعرض لثقافة الإلغاء من طرف الغرب، قائلًا: «أتحدث عن التمييز التدريجى ضد كل شىء له علاقة بروسيا. إنه توجه يكشف عن نفسه فى عدد من الدول الغربية»، وذلك بسبب إلغاء عدة أنشطة ثقافية روسية.
ويقول حسن زغبى، مؤسس «المعهد العربى الأمريكى فى واشنطن»، لا جديد فى «ثقافة الإلغاء»، إنها شائعة منذ عقود، والأمريكيون العرب وداعمو حقوق الإنسان للشعب الفلسطينى هم الضحايا الأساسيون. خصوصًا الآن مع إقرار أكثر من 30 ولاية، تشريعًا يُجرم الدعم لحركة «مقاطعة ومعاقبة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها». كما تتبنى وزارة الخارجية والتعليم الخلط بين انتقاد إسرائيل ومعاداة السامية كمسعى لمنع الأصوات الداعمة للشعب الفلسطينى، ويتعين على العقلاء المؤيدين للمنطق السليم، خصوصًا وسط التقدميين من العرب واليهود الأمريكيين، اتباع مسعى حازم محترم لوقف هذا الانزلاق الخطير باتجاه أى رغبة فى التّباين والاختلاف.
هناك حاجة مُلحة لمواجهة ثقافة الإلغاء التى هى آخذة فى اكتساح عدة مجتمعات، ولن تهدد فقط المجتمع الواحد بالانقسام وتزج به فى التطاحن والتعصب والاحتكام الى حكم الغوغاء، وإنما ستزج بالعالم فى عصر مظلم من الكراهية والتقاتل. ولقد ظهر تيار مقاوم لثقافة الإلغاء، ينادى بمكافحة آفات ثقافة الإلغاء، والمطالبة بتوفير منصة للحوار والتعبير عن الآراء من دون خوف أو توجس من الإدانة والعقاب والنّبذ والإلغاء.
بالنسبة للمجتمعات العربية، فإنها فى حاجة بدورها إلى خطة لمواجهة ثقافة الإلغاء التى ستنتشر فيها، وتشعل فتنة التعصّب والكراهية والطائفية، وبالتالى هناك ضرورة لتجديد ميثاق أخلاقى، يوازن بين الحق والواجب، والحرية والمسئولية.
وإذا كانت وسائط التواصل الاجتماعى، قد وفرت بيئة مناسبة للغوغاء، للتهجّم على المجتمع ومكوناته، جهلًا وانقيادًا لسياسة ما بعد الحقيقة، فإن العقلاء مطالبون بإرشاد الجميع خصوصًا الجيل الصاعد، من أجل امتلاك مهارات الفكر النقدى المسئول وأخلاق المناظرة والعفو عن الناس وستر عيوبهم والتحلى بأخلاق التراحم والتآزر.
خالد ميار الإدريسى
موقع عروبة 22