فى عددها الصادر بتاريخ 31 أكتوبر ــ 6 نوفمبر 2024 (العدد 1774)، خصصت دورية «كورييه إنترناسيونال» الفرنسية ملفًا عن الهجرة فى أوروبا، وقد ارتأت دورية «أفق» ترجمة مقالة من مقالات هذا الملف عائدة إلى مارتن إيهل Martin Ehl، رئيس تحرير صحيفة Hospodarske noviny التشيكية التى تصدر فى براغ، والمنشورة فى 13 سبتمبر 2024.
فى ما يلى مقتطف من هذه المقالة وقد ترجمته الدورية المذكورة إلى الفرنسية تحت عنوان «هل هى نهاية شنجن؟»، وننقله نحن بدورنا إلى العربية.
فى سبتمبر الفائت، قضيت بضعة أيام فى ألمانيا. كانت إقامة قصيرة ذكرتنى كم أن التناقض كان قويا بين الخطاب السياسى والواقع الاقتصادى. فى ألمانيا إذا، كما هو الحال فى أماكن أخرى فى أوروبا، بما فى ذلك بلدنا، الجمهورية التشيكية، ثمة المزيد أيضا حول قضايا حساسة على المستوى السياسى مثل قضية تدفق المُهاجرين. سأعطيكم مثالا ملموسا ومحددا للغاية: إذ إنه من خلال غرفة فندق كان غير قادر بالطبع على الاشتغال من دون عمل عاملات التنظيف والطباخات الأجنبيات، استطعت عن قرب، ليلة وصولى، الاطلاع على خبر استعادة ألمانيا رقابتها على كامل حدودها. وهو إجراء كانت قد أعلنته فى وقت سابق اليوم حكومة أولاف شولتس Olaf Scholz بعد شعورها بالخوف من صعود اليمين المتطرف فى الانتخابات.
رئيس الوزراء البولندى دونالد توسك تفاعل على الفور مع هذا القرار، من خلال عرض وجهة نظره للألمان، ثم انضم إليه نظيره اليونانى كيرياكوس ميتسوتاكيس، الذى تواجه بلاده هو الآخر تدفقا متناميا من المهاجرين. «إلغاء اتفاقية شنجن من جانب واحد» لا يمكن أن يكون هو الحل. ألمانيا التزمت هذا الطريق لأسباب تتعلق بالسياسة الداخلية بشكل أساسى، ومن دون أن تهتم أو تقلق بشأن جيرانها. من برلين، المشكلة تكمن فى مكان آخر: الانتخابات الفدرالية ستجرى فى غضون عام.
فى الربيع الماضى، تبنى البرلمان الأوروبى «ميثاقا للهجرة» كان يجب أن يدخل حيز التنفيذ خلال عامين. هذا التعديل ينص بشكل خاص على إيجاد ضوابط أكثر فعالية على الحدود الخارجية لمنطقة شنجن أو على عودة أسرع لطالبى اللجوء إلى بلدهم الأصلى. لكن يظل ثمة حقيقة وهى أن عوامل ثراء أوروبا وأمنها واستقرارها ستستمر فى ممارسة تأثير جاذب على عشرات الآلاف من الأشخاص الجاهزين للمخاطرة بحياتهم. ويظل هناك حقيقة ماثلة، وهى أن الثروة لا تزال تجتذب كثرة كاثرة من الأشخاص المستعدين للمخاطرة بحياتهم على متن قوارب متهالكة فى البحر، لا تراعى معايير السلامة، أو لعبور حواجز الأسلاك الشائكة برا.
• • •
الشعبويون والوطنيون على غرار رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، الذى أقام الحواجز على الحدود منذ العام 2015، عملوا بكامل طاقاتهم حول هذا الغرض. والآن، حتى بودابست، تسعى إلى إجبار بروكسل على تعويضها عن الأموال التى أنفقتها على حماية حدودها الخارجية.
الهجرة، والصراع ضد الهجرة، هما مسألة سياسية واجتماعية ومجتمعية فى غاية الحساسية؛ ومسألة من شأنها إثارة المشاعر أو إشعالها، سواء فى صفوف المؤيدين لـ «أوروبا الواحدة والصالحة» أم فى صفوف المدافعين عن حقوق الإنسان، الذين يقفون إلى جانب اللاجئين الهاربين من الحرب والجفاف والفقر، أملا بحياة أفضل. لكن الواقع هو أننا وصلنا إلى وضعية حيث الوسائل الموضوعة لحماية الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبى تعكس الاستعداد الحقيقى لأوروبا ــ المعتادة على تطبيق أساليب وسياسات أكثر نعومة خلال العقود الأخيرة - لاستخدام القوة من أجل ضمان أمنها. العالم الذى يحيط بنا تغير بشكل راديكالى.
هكذا، تستخدم الجارتان السلطويتان الكبيرتان للاتحاد الأوروبى، روسيا وبيلاروسيا أو روسيا البيضاء، اللاجئين كسلاح حى؛ وتواجه فنلندا، مثلا، هذه الممارسة بتشديد الحماية على حدودها.
المخرجة السينمائية الشهيرة آجنيسكا هولاند أخرجت فيلما (الحدود الخضراء Green Border) عن الطرق المثيرة للجدل المتخذة لحماية الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبى بين بولندا وبيلاروسيا. كان من المفترض لهذا الفيلم أن يشكل حافزا نقديا للحكومة البولندية المحافظة السابقة، من شأنه التأثير على انتخابات العام الماضى. لكن، وفقا للمعلومات التى وزعتها وسائل الإعلام البولندية فى ظل الحكومة الليبرالية الجديدة والمؤيدة لأوروبا، فإن حرس الحدود البولندى استخدم، بشكل أو بآخر، أساليب حماية الحدود نفسها التى كانت سائدة خلال تصوير الفيلم.
مؤيدو الاتحاد الأوروبى وجدوا أنفسهم إذن فى طريق مسدودة. كانوا يرغبون فى الحفاظ على مشروع مشترك من شأنه أن يمنح أوروبا فرصة الحفاظ على ازدهارها فى الأوقات الصعبة على مستوى العالم، فى الوقت الذى تكون فيه مجبرة، بطريقة أو بأخرى، على تلبية شرط أساسى للحفاظ على الأمن، هو، على وجه التحديد، حماية الحدود. لكن المثال الألمانى يوحى بأن المقاربة التقليدية المتمثلة بترك الأمر لكل دولة بالسهر على أمنها الذاتى، وبحماية مصالحها الخاصة، هى التى تغلب أو تفوز. ومن أجل مستقبل مشروع أوروبا المشتركة، فإن ما يحصل ليس علامة جيدة بالتأكيد.
رفيف رضا صيداوى
مؤسسة الفكر العربى
النص الأصلى: