اختار «قاموس أوكسفورد» مصطلح «تعفن الدماغ» (Brain rot) ليكون كلمة العام 2024، والذى يصف التدهور العقلى الناتج عن التعرض المستمر للمحتوى منخفض القيمة على شبكة الإنترنت وخاصةً «السوشيال ميديا». وهذا يعكس المخاوف المستمرة بشأن التأثير الضار للإفراط فى استهلاك محتوى وسائل التواصل الاجتماعى، والذى باتت تسوده السطحية والهزلية المفرطة والسخرية حتى من القيم الثقافية والاجتماعية؛ ما يشكل تهديدا جديا لنوعية المعلومات المتاحة للجمهور وتآكل القدرات الفكرية للأجيال الأصغر سنا ونمط حياتهم على الواقع الافتراضى وتأثيرها المباشر فى سلوكهم الحقيقى.
ليس بجديد أن يكون المحتوى الترفيهى، بما فى ذلك الرياضة وأخبار المشاهير والسينما، هو الأكثر جاذبية ورواجا، ولاسيما إذا أُضيفت إليه قيم التعاطف الإنسانى أو الصراع مثل المسابقات أو الجريمة أو الخلافات والمآسى الشخصية أو غيرها من العناصر التى تضفى المزيد من الشعبية على المحتوى، وهو ما كان سائدا فى وسائل الإعلام التقليدية وامتد للإعلام الرقمى فيما بعد. بيد أن الإدارة المؤسسية للأولى وتنوع أنماط ملكيتها وخضوعها للإشراف التنظيمى وفاعلية «حراسة البوابة» فيها، كانت تجعل من الممكن ضبط التوازن بين ذلك المحتوى الشعبوى والمحتوى الثقافى والاجتماعى والتوعوى الذى يوازن العلاقة بين ما يريده الجمهور وما يحتاجه.
ولا يبدو الأمر كذلك فى الإعلام الرقمى، فى ظل سيادة مفاهيم الفردية والمحتوى الذى ينتجه المستخدمون، وحراسة البوابة الخوارزمية التى تعتمد على تفضيلات المستخدم وما ينشأ عنها من فقاعة التصفية وغرف رجع الصدى وغيرها من الظواهر التى تجعل من تحقيق ذلك التوازن أمرا صعبا، ولاسيما مع تنافس الشركات التقنية على استحواذها على الحصص الأكبر من المستخدمين الأصغر سنا وتعديل سياساتها بما يمنح مؤشرات الرواج الأولوية المطلقة، مع أخذ اعتبارات التهديد الإرهابى أو الأخبار المضللة فى الاعتبار تجنبا للعقوبات والأحكام القضائية.
وعند النظر إلى بيانات الكلمات الأكثر بحثا على «جوجل» خلال العام 2024، نجد المحتوى الرياضى وأخبار المشاهير هو السائد، وفى الكلمات الأكثر بحثا يتصدر القائمة الرئيس الأمريكى المُنتخب دونالد ترامب، والمعروف بشعبويته وإثارته للجدل ودمج دعاياته بين السياسة والترفيه والصراع، بما لا يخلو من العنف أيضا عبر سلوك مؤيديه وتعرضه هو نفسه لإطلاق النار؛ ما يجعله دوما ضمن قوائم الرائج. تليه كيت ميدلتون، التى سادت الشائعات بشأن اختفائها حتى الكشف عن إصابتها بمرض السرطان. وكذلك البطلة الرياضية إيمان خليف، والجدل حول هويتها الجندرية. وهذا ما يجعل دوما «إثارة الجدل» والشائعات بل والنميمة، حبكة مضمونة للرواج والشعبية على الإنترنت.
وتزداد سيادة المحتوى الشعبوى بالنظر إلى منصات مثل «تيك توك»؛ والذى يعتمد على مقاطع قصيرة وتحديات يغلب عليها الترفيه، وكذلك البث المباشر الذى تسوده الهزلية وإثارة الجدل لزيادة المشاهدات والحصول على الأرباح، فيما بات محل انتقادات عديدة، وهو ما لا يختلف كثيرا عند النظر لمنصات «فيسبوك» و«إنستجرام»؛ بل إن بعض المشاهير باتوا محل اتهام بتعمدهم إطلاق تصريحات أو القيام بسلوكيات هدفها إثارة الجدل وتصدر «الترند» على منصات تمنح الأولوية دائما لمؤشرات الرواج.
• • •
تفرض سمات الفورية والتفاعلية والتشاركية والتنوع البصرى فى وسائل التواصل الاجتماعى، أن يكون المحتوى المنشور عليها متوافقا مع تلك السمات، فمن الصعب قراءة مقال مطول أو مشاهدة فيلم وثائقى طويل أو الاطلاع على موسوعة عبر حساب على «إنستجرام» أو «إكس» أو «فيسبوك»، حتى وإن تضمنت تلك الشبكات روابط لتلك المنتجات المعرفية، إلا أن الفضاء الرقمى يزخر بالعديد من التجارب التى استطاعت تقديم محتوى إبداعى متوافق مع خصائص التواصل عبر تلك المنصات وذى قيمة معرفية، بحيث يقدم خيارا أكثر قابلية للتداول والاستهلاك الرقمى.
فإلى جانب المواقع وتطبيقات الهواتف المحمولة التى تقدم محتوى تعليميا أو ملخصات سريعة مثل تطبيق (Blinkist) الذى يقدم ملخصات لا تتجاوز 15 دقيقة للكتب والمقالات وحلقات «البودكاست» بطريقة مبسطة وجذابة؛ شهدت مواقع التواصل الاجتماعى تجارب مشابهة لتقديم المحتوى التثقيفى بشكل خفيف وسريع؛ بل إن هناك مؤثرين يختصون بهذا الدور مثل المهندس السابق فى «وكالة ناسا»، مارك روبر، الذى يركز محتواه على العلوم بطريقة درامية مثل إسقاط بيضة من الفضاء، أو اختبار ما إذا كان الحمض أو الحمم البركانية أكثر تدميرا، ويتابع قناته أكثر من 60 مليون مشترك وتحقق فيديوهاتها أكثر من 9 مليارات مشاهدة.
ومع انتشار «البودكاست»، اتجه العديد من صناع المحتوى لاستخدامه فى إنتاج محتوى مطول يتضمن لقاءات مع متخصصين ويقدم معارف متخصصة أتاح لها «البودكاست» وقتا أطول للعرض، مثل «بودكاست» (فنجان) والذى يقدمه عبدالرحمن أبو مالح، ويناقش موضوعات متنوعة تشمل الاقتصاد والصحة النفسية وغيرها، والذى يتبع إذاعة «ثمانية» الرقمية. كما اتجه العديد من المؤثرين لإنتاج «البودكاست»؛ وهو ما أدى إلى تضخم كبير فى محتواه، وكذلك تقطيع الحلقات إلى مقاطع أقصر، بحيث تناسب النشر على منصات مثل «إنستجرام» و«فيسبوك» و«تيك توك».
وإلى جانب الفيديو والصور والملخصات و«البودكاست»، تضمنت تلك التجارب الإبداعية كذلك توظيف الرسوم المتحركة لتقديم محتوى مبسط لأكثر المعلومات تعقيدا، مثل قناة (TED-Ed) على «يوتيوب» والتى تحظى بأكثر من 20.8 مليون مشترك و4.1 مليار مشاهدة، وتضم فيديوهات حول قضايا البيئة والتاريخ وعلم النفس والاجتماع وتطوير الذات وغيرها من الموضوعات.
• • •
تصف حالة «تعفن الدماغ» تدهور الحالة العقلية أو الفكرية نتيجة الإفراط فى استهلاك المواد التى تعتبر تافهة أو لا تتحدى القدرات العقلية عبر الإنترنت وتحديدا مواقع التواصل الاجتماعى، واختيارها ككلمة العام 2024 يعكس انشغال العالم بالطريقة التى يعيش بها الناس حياتهم الافتراضية، ومخاوف الانحدار الفكرى والثقافى الناتج عن الانغماس المفرط فى المحتويات الهابطة والشعبوية. بيد أن التجارب الإبداعية الرقمية الأكثر جدية قد تفض الاشتباك بين الخفة والقيمة، وتقدم نماذج عملية لإمكانية توظيف الأدوات الإبداعية لإنتاج محتوى على منصات التواصل الاجتماعى، يقدم قيمة معرفية ويتمتع بالرواج والجاذبية أيضا، وهو ما يتطلب المزيد من التعزيز من خلال الآتى:
1- تقديم المزيد من الدعم لتوظيف أدوات العرض والمحتوى على «السوشيال ميديا» لصالح المحتوى التعليمى والتثقيفى، وهو ما تقدمه بعض المؤسسات مثل «أكاديمية الإعلام الجديد» فى دبى.
2- تشجيع المؤثرين الاجتماعيين الذين يقدمون المحتوى الأكثر قيمة بأشكال إبداعية خفيفة، وهو ما يُعد من أصعب تقنيات الإنتاج الإعلامى التى تتطلب جهدا كبيرا فى عمليات البحث والتدقيق، ثم الكتابة والإنتاج الإبداعى دون المساس بدقة المعلومات.
3- ابتكار أساليب للسرد القصصى الرقمى تُلائم المحتوى عالى القيمة، والتى تضفى طابعا إنسانيا يحيل الحقائق والأخبار والأحداث إلى قصص ثرية مرئيا وأكثر قابلية للاستهلاك والانتشار، وملائمة للفئات الأصغر سنا والتى تُعد هدفا رئيسيا للإثراء الثقافى.
4- استحداث وتفعيل أقسام للإنتاج الإعلامى الرقمى بالمؤسسات الثقافية والتعليمية والعلمية، لا تقتصر على إعادة نشر المحتوى الإعلامى المنتج لوسائط أخرى كالتلفزيون أو الصحف، أو الاقتصار على الترويج للفعاليات الثقافية التى تنظمها تلك المؤسسات؛ وإنما تختص بإنتاج أشكال مبتكرة من المحتوى الرقمى تتجاوب مع الاتجاهات الرائجة ومعززة بعناصر تفاعلية وبصرية إبداعية، بحيث يتم إنتاجها للمنصات الاجتماعية خصيصا.
5- الاهتمام بمقررات التربية الرقمية وتضمينها إرشادات واضحة بشأن عادات الاستهلاك الصحى لـ«السوشيال ميديا»، وهو ما يشهد العالم العربى تجارب عديدة بشأنه، إلا أنه بحاجة للتوسع والربط بالممارسات الحياتية واليومية للطلاب، وخروجه من الإطار الدراسى التقليدى إلى تنظيم المسابقات وتسجيل اليوميات وتبادل التجارب فى أشكال رقمية قابلة للتداول والانتشار.
• • •
مُجمل القول إن هذا التراوح بين الجانبين المظلم والمضىء؛ أى «تعفن الدماغ» مقابل المحتوى الإبداعى الأكثر قيمة، يؤكد أن منصات التواصل الاجتماعى ليست هى المشكلة فى حد ذاتها، وإنما هى أداة يمكن توظيفها بأى من الطريقتين. وفى ظل ضغوط الرواج وجنى الأرباح، يأتى دور مؤسسات صياغة السياسات العامة والمنظمات غير الحكومية والأفراد الناشطين، الذين يتحملون مسئولية ضبط الإيقاع والحفاظ على التوازن عبر تعزيز واحتضان منتجى المحتوى الأكثر قيمة وتوفير المزيد من البدائل.
فاطمة الزهراء عبدالفتاح
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
النص الأصلى:
https://tinyurl.com/mr5vabf2