رغم أن دونالد ترامب تعهد بأنه سيكون الرئيس الوحيد الذى لم ولن يبدأ حروبا جديدة، إلا أنه تبنى خطابا توسعيا بعد فوزه بالرئاسة الأمريكية مهددا بالاستيلاء على قناة بنما وجزيرة جرينلاند. فى ضوء ذلك، نشر المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية مقالا للباحثة مها علام، تناولت فيه أسباب التغير فى خطاب ترامب من النهج الانعزالى إلى الإمبريالى.. نعرض من المقال ما يلى:
خاض دونالد ترامب السباق الرئاسى لعام 2024 بالاستناد إلى شعار «أمريكا أولا» انطلاقًا من صعوبة استمرار الولايات المتحدة فى القيام بدور شرطى العالم. وفى هذا الإطار، فقد نسب لإدارة سلفه جو بايدن حربى أوكرانيا وغزة، ناهينا عن استنكار الانسحاب العشوائى من أفغانستان. ومن ثم، قدم ترامب نفسه باعتباره الرئيس الوحيد الذى لم يبدأ حروبا جديدة، بل وتعهد بعدم اندلاع حروب جديدة خلال ولايته الثانية. وعلى النقيض من ذلك، وخلال الفترة الممتدة بين إعلان فوزه على منافسته الديمقراطية كمالا هاريس وتنصيبه رسميا كالرئيس الأمريكى السابع والأربعين يوم الإثنين الماضى، تبنى خطابًا توسعيًا مهددًا بالاستيلاء على قناة بنما وجزيرة جرينلاند، (ربما باستخدام القوة العسكرية)، ومشيرًا إلى إمكانية استخدام الإكراه الاقتصادى لجعل كندا الولاية الأمريكية رقم (51)، علاوة على إعادة تسمية «خليج المكسيك» بـ «خليج أمريكا». وهو المشهد الذى يثير التساؤل بشأن أسباب التغير فى خطاب الرئيس المنتخب من الانعزالية إلى الإمبريالية.
• • •
على الرغم من الرفض الذى أبداه ترامب خلال ولايته الأولى لنهج الانخراط الخارجى للولايات المتحدة، معتبرًا إياه فشلاً فى وضع المصالح الأمريكية فى صدارة الأولويات، فإن الولاية الثانية لترامب تعكس مساعى لتعظيم مصالح واشنطن من خلال التوسع الذى يمكن أن يعتمد على الأداة العسكرية. الأمر الذى يعنى أن مبدئى «أمريكا أولًا» و«جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» لن يهدفا إلى تحجيم الانخراط العالمى للولايات المتحدة أو الانكفاء على الداخل الأمريكى، وإنما تعزيز الهيمنة الأمريكية وتدعيم مكانة واشنطن على رأس النظام الدولى ولكن بتكاليف أقل. وارتباطا بذلك، يمكن تفكيك هذا التحول الذى طال خطاب ترامب على النحو التالى:
أولا- القدر المحتوم: اعتبرت بعض التحليلات أن خطاب ترامب التوسعى غير المتوقع يمكن تفسيره فكريًا وفلسفيًا من خلال الأفكار المتجذرة بعمق فى العقلية الأمريكية مستندة إلى مزيج من القومية والتوسعية وفق عقيدة القدر المحتوم Manifest Destiny، التى تعتبر أن الولايات المتحدة مقدر لها –من قبل الله والتاريخ– توسيع أراضيها عبر أمريكا الشمالية، بغض النظر عن حقوق الشعوب الأصلية أو سيادة الدول المجاورة. وهو المصطلح الذى صاغه الصحفى الأمريكى المحافظ جون أوسوليفان عام 1845 كمبدأ أساسى للحلم الأمريكى العظيم الذى يستند إلى «الانتشار والسيطرة على القارة بأكملها التى مُنحت من قبل العناية الإلهية». على الرغم من أن الاستناد إلى عقيدة القدر المحتوم قد تلاشت بشكل واضح من الخطاب السياسى الأمريكى السائد، فإن روحها وفحواها لا تزال قائمة فى شعارات مثل «جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى».
ثانيا- استعادة الإمبريالية الأمريكية: يمكن النظر إلى شعارى «أمريكا أولًا» و«جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» اللذين يغلفان خطاب ترامب التوسعى كانعكاس وترجمة للشيفونية التى تستهدف استعادة العصر الذهبى للولايات المتحدة الذى بدأ بانتهاء الحرب الأهلية، والذى تمكنت فيه من التوسع الإقليمى (مثل: شراء ألاسكا من الروس) وتكديس الثروات وتقوية الصناعة الأمريكية وتحقيق السيطرة على نصف الكرة الغربى. فصورة الولايات المتحدة الأمريكية كبلد وُلد من رحم ثورة لا تنطبق إلا على جزء صغير منها، أما بقية الدولة بصورتها الحالية التى تضم 50 ولاية و14 إقليمًا خارجيًا فقد تمت من خلال مزيج من الاحتلال والتنازل والشراء. وبالتالى، يبدو أن الارتكان إلى هذين الشعارين خلال الولاية الثانية يعكسا رغبة ترامب فى إعادة رسم خريطة نصف الكرة الغربى لجعل أمريكا أكبر وأقوى مما هى عليه. الأمر الذى يعنى أن حرص الرئيس المنتخب على التعامل مع نصف الكرة الغربى كمجال نفوذ أمريكى يشير إلى إحياء (مبدأ مونرو)، الذى ظهر لأول مرة فى عام 1823، ومثّل الأساس للسياسة الخارجية الأمريكية. ومن ثم، فقد اعتبرت بعض التحليلات أن هدف «ترامب» المتمثل فى تحقيق الهيمنة غير المتنازع عليها، وبالأخص فى نصف الكرة الغربى، وفق نهج «أمريكا أولًا» يتشارك مع (مبدأ مونرو) فى هدفيه الرئيسيين: منع القوى الخارجية من التدخل وتخفيف الفوضى المتصورة فى المنطقة.
ثالثا- نظرية الرجل المجنون: يتجه جانب من الخبراء إلى التأكيد على أن الرئيس الجمهورى المنتخب لا يسعى لإحياء إمبريالية القرن التاسع عشر، وإنما يوظف هذه التهديدات بالاستناد إلى قدرتها على تعزيز صورته على الساحة الدولية كـ (زعيم يصعب التكهن به)، أى أنه شخصية يستعصى توقعها فى ضوء عدم التزامها بالثوابت والمحددات. وهو ما يمكن استقراؤه فى الكيفية التى تعامل بها ترامب خلال ولايته الأولى مع زعيم كوريا الشمالية؛ حينما اتجه فى بداية ولايته إلى التهديد بتدمير بيونج يانج، ثم قلب المشهد رأسا على عقب، من خلال الإشارة للزعيم الكورى الشمالى بوصفه صديقه الحميم. يستند هذا التفسير إلى ما كان يسمى خلال حقبة الرئيس ريتشارد نيكسون، بـ «نظرية الرجل المجنون»، والتى كانت تستهدف الإيحاء لقادة الدول الشيوعية أن استفزاز الرئيس نيكسون سيؤدى إلى جعل ردود أفعاله متهورة أو غير عقلانية أو متطرفة للغاية، وهو ما يساهم فى دفع الأطراف الدولية إلى تقديم المزيد من التنازلات. وعلى هذا النحو، وفى ضوء المصالح المهمة والحيوية التى يرغب «ترامب» فى ضمانها بالدول التى أطلق تصريحات مثيرة للجدل بشأنها (كندا، وبنما، والمكسيك، وجرينلاند)، يمكن النظر إلى خطابه التوسعى فى سياق تكتيكاته التفاوضية المعقدة، التى تقوم على الاستفزاز ثم زعزعة الاستقرار ثم استغلال الفوضى للتفاوض. بعبارة أوضح، يبدو أن الخطاب التوسعى لترامب وتصريحاته المثيرة للجدل تمثل ترجمة لتكتيكاته التفاوضية المفضلة القائمة على منطق «الصفقات».
• • •
استنادا إلى ذلك، يبدو من الصعب تفكيك خطاب ترامب التوسعى وفق تفسير وحيد، وإنما فى إطار التفسيرات الثلاثة السابق ذكرها مجتمعة؛ وهو ما سوف يؤكده التباين المتوقع فى تعامل ترامب مع هذه الدول؛ كونه سيجرى وفقا للأولويات التى توضحها هذه التفسيرات طبقًا لكل حالة. ومن ناحية أخرى، فإن خطاب ترامب المتهور، وحتى وإن لم يكن هناك نية لتنفيذه، يمثل انحرافا هائلا عن المعايير التى دافعت عنها الولايات المتحدة لسنوات، وهو ما سوف يحمل انعكاسات ليس فقط بالنسبة لسلوك واشنطن، وإنما توفير الغطاء والمسوغ أيضا لسلوك خصميها موسكو وبكين. ومن ثم، يظل مكمن الخطر الرئيس فى خطاب ترامب هو تقويض المعايير والمؤسسية الدولية لصالح إعادة إحياء منطق «البقاء للأقوى».
النص الأصلى:
https://bitly.cx/dAeNA