النقاش حول مشروع قانون اللجوء فى مصر الذى قدمته الحكومة خرج إلى العلن بعد أن وافق عليه مجلس النواب فى جلسة يوم 19 نوفمبر الماضى. قبل ذلك بزهاء الشهر، كانت لجنة الدفاع والأمن القومى فى المجلس قد وافقت على المشروع. حتى ذلك الوقت كان المشروع قد بقى طى الكتمان وهو لم يفرج عن مسودته ويصل إلى علم بعض المهتمين بموضوعه إلا فى يوم 2 نوفمبر الجارى. بالرغم من هذا الإفراج مازال الوصول إلى المسودة صعبا. أضاع الكتمان على عملية صياغة مشروع القانون آراء المختصين بشئون اللجوء ومساهماتهم، الحريصين على أن يخرج القانون فى أكمل صورة يفوق بها القوانين المناظرة فى الدول الأخرى ويحقق التوازن بين إيواء اللاجئين، وحمايتهم، وتمكينهم من سبل المعيشة، من جانب، وحماية مستويات معيشة المواطنين، وهم المجتمع المضيف المصرى، من جانب آخر.
ليس الغرض من هذا المقال تحليل الأحكام الواردة فى مشروع القانون، فليس فى المساحة المتوفرة فى «الشروق» الغراء ما يسمح بذلك، ثم أن منظمتين من المجتمع المدنى المصرى هما منصة اللاجئين فى مصر والمبادرة المصرية للحقوق الشخصية قد أصدرتا دراسة نقدية رفيعة المستوى بشأن المشروع تعفى من تكرار ما قامتا به. المهتمون مدعوون إلى الرجوع إلى هذه الدراسة. المقال، الذى لا يشير إلا إلى أحكام محدودة جدا فى مشروع القانون هو محاولة لتبين كل من المبرر لصدوره، ومحددات صياغته القانونية والسياسية بما فى ذلك البيئة التى يصدر فيها ويطبق، والأهداف التى يبتغيها، والمبادئ التى يهتدى بها. المقال يحاول أيضا مناقشة عناصر لسياسة اللجوء يندرج فى إطارها تطبيق القانون.
• • •
سؤالان أولان ثارا هما لماذا يصدر قانون للجوء أصلا؟ وما هى الفوائد التى ستعود منه على مصر؟ الردّ هو أن الشىء الطبيعى هو أن يكون لمصر قانونها للجوء. حسناً فعلت الحكومة بالتفكير فى إصدار هذا القانون. تفسير ذلك ربما احتاج إلى بعض التفصيل. اشتركت مصر فى التفاوض على الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين المعتمدة فى سنة 1951 غير أنها لم تصبح طرفا فيها، فهى لا وقعت عليها ولا صدقت. فى ظل عدم التزامها بأحكام الاتفاقية، وقعت مصر مع مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين فى سنة 1954 مذكرة تفاهم نظمت العلاقات بينهما، وأوكلت مصر للمفوضية بمقتضاها عمليات تسجيل ملتمسى اللجوء، وتحديد ما إذا كانوا يستحقون وضع اللاجئ أم لا، وتوفير سبل الإعاشة لهم. بناء على تسجيل المفوضية لهم، تمنح مصر الإقامات لملتمسى اللجوء وللاجئين. فى سنة 1981، صدقت مصر على الاتفاقية وعلى بروتوكول سنة 1967 الملحق بها، كما صدقت على اتفاقية منظمة الوحدة الإفريقية التى تحكم الجوانب الخاصة بمشاكل اللاجئين فى إفريقيا المعتمدة فى سنة 1969.
أما عن سؤال الفوائد المادية التى تعود على مصر من صدور القانون، فلا فوائد. هذا قانون عن الواجب الإنسانى الذى يضطلع به المجتمع المصرى، وليس فقط لالتزامها به كطرف فى اتفاقية سنة 1951، كما يجب أن تضطلع به المجتمعات كافة. أما إن كانت مجتمعات أخرى لا تضطلع بالواجب، فهذا ليس مبررا لأن لا يضطلع به مجتمعنا. سنرجع إلى هذه النقطة لاحقا لأن لها أبعادا سياسية بخلاف تلك الإنسانية والقانونية.
جدير بالذكر أن «اللاجئ» فئة قانونية تحددها اتفاقية سنة 1951 على أنه أى «شخص يوجد خارج بلد جنسيته أو بلد إقامته المعتادة، بسبب خوف له ما يبرره من التعرض للاضطهاد بسبب العنصر، أو الدين، أو القومية، أو الانتماء إلى طائفة اجتماعية معينة، أو إلى رأى سياسى، ولا يستطيع بسبب ذلك الخوف أو لا يريد أن يستظل بحماية ذلك البلد أو العودة إليه خشية التعرض للاضطهاد».
بما يعكس تاريخ إفريقيا وحاضرها السياسى، أضافت الاتفاقية الإفريقية أن فئة «اللاجئ» تشمل أيضا «كل شخص يجبر على ترك محل إقامته المعتادة بسبب اعتداء خارجى، أو احتلال، أو هيمنة أجنبية، أو أحداث تعكر النظام العام بشكل خطير فى كل أو جزء من بلد منشأه أو جنسيته من أجل البحث عن ملجأ فى مكان آخر خارج بلد منشأه أو جنسيته». هذه الإضافة هامة بالنسبة إلينا حيث لجأ إلى مصر فى السنة ونصف السنة الأخيرة بنات وأبناء السودان هربا من انهيار النظام العام فى بلدهم، وهو ما كان قد فعله قبلهم بنات وأبناء شعوب إفريقية وغير إفريقية كشعوب إريتريا وسوريا واليمن.
على الأقل، بعد انضمامها إلى الاتفاقيتين والبروتوكول كان المفترض أن تسلك مصر النهج الطبيعى بأن يكون لها قانونها للجوء وأن تطبق بنفسها أحكام الاتفاقيتين المتعلقة بالتسجيل وتحديد وضع اللاجئ والحماية والإيواء، ولكنها لم تفعل واستمرت فى الاعتماد الكلى على مكتب المفوضية السامية للاجئين فى القاهرة. لذلك فإن صدور قانون مصرى للجوء هو تصحيح لاعورار وعودة إلى النهج الطبيعى. صحيحٌ أن مجلس النواب وافق نهائيا على مشروع القانون، ومع ذلك ندلى بالملحوظات الآتية بشأن محددات صياغة القانون وبيئة تطبيقه وأهدافه ومبادئه، لعل فرصةً تسنح لضبط أحكامه التى تحتاج إلى ضبط، بما يحقق الغرض منه، ويكفل التوازن بين حماية اللاجئين وإيوائهم من جانب، وتلبية احتياجات المواطنين، من جانب آخر. هذا التوازن هو الذى يؤمن العلاقات السلسة والتعاونية بين اللاجئين ومجتمعهم المضيف ويدرأ الحساسيات وخطابات معاداة الأجانب والكراهية البغيضة.
* • •
مثل أى قانون آخر فهو لا يصدر فى فراغ وإنما استجابةً لظروف بيئة إقليمية ووطنية، وكذلك دولية معينة. البيئة الإقليمية تتسم بالصراعات فى البلدان المتاخمة والمجاورة لمصر التى تشاركها الإرث التاريخى والثقافى، والتى لمصر فيها تاريخ ووزن حضارى وثقافى وسياسى، وما السودان وسوريا واليمن والصومال إلا أمثلة بليغة على ذلك. أما وأن اللاجئين ليسوا فى الحكم، فليست أنظمة الحكم فى أى بلدان مؤبدة، ولاجئو اليوم الذين يحتاجون للحماية قد يكونون المجموعات الحاكمة فى الغد. على أقل تقدير، هم مجموعات الضغط من أجل مراعاة مصالح مصر فى المستقبل. مجرد لجوئهم إلى مصر يعنى الثقة بها وعشمهم فيها وجميلا يرَد. هذا لا يعنى عدم الالتفات إلى أن فى البيئة الوطنية أزمةً اقتصادية ممتدة وظروفا معيشية متزايدة الصعوبة على المواطنين. أما البيئة الدولية فالتعاون فيها متناقص، وإن لم ينعدم.
أهداف القانون هى توفير الحماية القانونية والفعلية لملتمسى اللجوء واللاجئين، وضمان المعيشة الإنسانية لهم وسبلها. مشروع القانون أقر بحق الطفل اللاجئ فى التعليم الأساسى وهذه خطوة إيجابية فيها عدول عن تحفظ مصر على الفقرة الأولى من المادة 22 من اتفاقية سنة 1951 الخاصة بمساواة اللاجئ بالمصرى فى الحق فى مجانية التعليم الأساسى. أهم سبل المعيشة هو الأجر مقابل العمل. مشروع القانون يتشدد فى شأن تشغيل ملتمسى اللجوء واللاجئين فارضا قيودا على تشغيلهم.
حرى بالقانون أن ييسر العمل على ملتمسى اللجوء واللاجئين فهم بأجورهم يعنون بأنفسهم وأسرهم ولا يحتاجون إلى موارد التعاون الدولى. القانون لا بدّ أن يعمل على تخفيض تكلفة إيواء ملتمسى اللجوء واللاجئين وتعظيم المنفعة من وجودهم. بشأن العمل مرةً أخرى، أليس من المصلحة الاستفادة من وجود أطباء وطبيبات بين اللاجئين مثلا لسد العجز فى الخدمات الطبية المترتب على الهجرة المتزايدة للأطباء المصريين؟ ويبقى هدف سامى هو تحقيق المصالح المصرية العليا فى إقليمها الإفريقى والعربى المذكورة بشأن البيئة أعلاه، فضلا عن إعطاء أفضل صورة لمصر كدولة تحترم كلا من الإنسان والقانون الحاكم للمجتمع الدولى.
• • •
أول المبادئ المتوخاة فى صياغة القانون هو الأخذ بأحكام اتفاقيات وبروتوكول القانون الدولى للاجئين المذكورين، وكذلك اتفاقيات القانون الدولى لحقوق الإنسان المنضمة إليها مصر. مشروع القانون فعل ذلك بالفعل فهو بإقراره بحق الطفل فى التعليم الأساسى عمل بالحكم ذى الصلة فى اتفاقية حقوق الطفل متخطيا تحفظ مصر على المادة 22 فى اتفاقية سنة 1951. غير أن هذا المبدأ يعنى أيضا عدم التزود فى صياغة أحكام القانون أو إدراج مصطلحات فضفاضة فيه يمكن تفسيرها بما ينتهك القانون الدولى للاجئين. مبدآن آخران هما احترام إنسانية ملتمسى اللجوء واللاجئين، والحفاظ على مستويات معيشة المجتمع المصرى المضيف. مبدأ هام إضافى هو التحديد الدقيق لعدد ملتمسى اللجوء واللاجئين وخصائصهم الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية، وهو الشىء الضرورى للاستناد فى القانون وفى السياسة لمبدأ التعاون الدولى فى الاشتراك فى تحمل أعباء اللجوء الوارد فى ديباجة اتفاقية سنة 1951.
صياغة سياسة للجوء ضرورية منذ ما قبل صدور القانون ثم لتفعيل أحكامه بعد صدوره. السياسة يجب أن تتناول فترة الانتقال من اضطلاع المفوضية بالمسئولية الكاملة عن اللجوء إلى الوضع الجديد الذى تتولى فيه مؤسسات جديدة للحكومة المصرية هذه المسئولية. سياسة اللجوء يجب أن تشمل أيضا إنشاء هذه المؤسسات وتزويدها بالمسئولين والعاملين المؤهلين علميا، والمدربين على الاضطلاع بوظائفها. قد يتطلب ذلك العمل مع أقسام للقانون الدولى فى الجامعات معروفة بتعمقها فى القانون الدولى للاجئين ومع المفوضية السامية للاجئين، فى كل من مكتبها فى القاهرة ومقرها فى جنيف. سياسة اللجوء ينبغى أن تشمل إجراءات لتعريف العاملين فى الوزارات والمصالح والمستشفيات والمدارس والجامعات بما ينص عليه القانون وبمستحقات ملتمسى اللجوء واللاجئين. السياسة لا بدّ أن تتضمن إجراءات لمكافحة كراهية الأجانب والعنصرية ولتفنيد الادعاءات منعدمة السند مثل الزعم بأن القانون يهدف إلى منح الجنسية المصرية للاجئين، فليس فى القانون الدولى ما يلزم أى دولة بذلك على خلاف إرادتها. ولسياسة اللجوء بعدٌ خارجى هو مطالبة الدول الأعضاء فى المجتمع الدولى القادرة على ذلك بتفعيل مبدأ الاشتراك فى تحمل المسئولية عن إيواء اللاجئين سواء بتوفير المساندة المالية والفنية، أو بزيادة فرص إعادة توطين اللاجئين الموجودين فى مصر فى أراضيها.
• • •
ليس فى إصدار قانون للاجئين عيب. العيب هو فى ألا يتفق القانون مع قواعد القانون الدولى لكل من اللاجئين وحقوق الإنسان. والعيب أخيرا هو فى أن يلتفت القانون عن المصالح السياسية العليا لمصر قى إقليمها العربى والإفريقى.