شاهدت عرض فريق المسرح بكلية تجارة عين شمس «سوبيبور» والذى يتناول أحد معسكرات النازية فى بولندا والذى تم فيه إعدام ما يتجاوز المائة ألف معظمهم من اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، وقد شهد هذا المعسكر محاولة للهرب نجح فيها ما يقرب من 250 من المعتقلين لكن الغالبية تم إبادتهم. والعرض مأخوذ من فيلم «الهروب من سوبيبيور» الذى أنتج فى العام 1987 وأخرجه جاك جولد من إنتاج بريطانى يوغسلافى مشترك.
وقام فريق العمل فى العرض والذى ضم مجموعة من الشباب أصحاب الموهبة الواضحة بداية من الإعداد للموسيقى لعمرو صلاح، ماكياج نادين أشرف وأشرقت مدكور، ملابس أميرة صابر، دراما حركية هانى فاروق، ديكور محمد أبوالحسن، إضاءة محمد جبر، تأليف وإخراج محمد زكى. بل شمل الفريق مصححا لغويا هو زياد كمال، وهو ما دل على رغبة حقيقية على إجادة العمل والخروج بعرض متميز، وهو ما كان فى رأيى فكل العناصر السابقة إضافة لأداء معظم الممثلين يتعدى قدرات وإمكانيات شباب فى مقتبل العمر، ويكاد يرقى لمستوى من الاحترافية لا يتوافر فى المسرح المصرى فى آخر مرحلة إلا فيما ندر. فكل العناصر السابقة استخدمت مواد غير مكلفة لتعبر عن روح العرض بداية من الملابس التى تشعر المشاهد بالتنميط الواضح للشخصيات رغم الاختلافات بينها التى يظهرها العرض هذا التنميط الذى يعد الخطوة الأولى فى صناعة خطاب الكراهية والعنصرية والتى ترى الآخر كشيء واحد قبل أن تبدأ فى نعته بالأوصاف العنصرية. أما الديكور فيعكس الحالة النفسية للسجن من خلال أجزع الشجر التى تتشابك مثل القضبان فتدخل المشاهد عالم العرض ثم تضفى الإضاءة بألوانه وخفوتها فى معظم الأوراق حالة نفسية مكملة لهذا الشعور. الأداء الحركى أكثر من رائع ومتناسب مع إمكانيات العرض بدون غلو ومعبر عن السياق الدارمى وليس منعزلا عنها، وهو نفسه ما تقوم به الموسيقى والأغانى المختارة على لسان أبطال العرض «المضفرة» بعناية فى أحداث العرض بشكل متميز. ما يعيب العرض هو بعض الهنات التى تعبر عن عدم إدراك كامل للظروف الاجتماعية لهذه المرحلة فالضابط السوفيتى فى عهد ستالين من المستحيل أن يرتدى قلادة تعبر عن هويته الدينية، كما أنه من الصعب أن يعيش بألمانيا مسلمة ترتدى الحجاب ولا تصافح الرجال فى عام 1942. ويظل الأضعف فى العرض هو سمت الأعمال الأولى وهو الرغبة فى وضع الكثير من القصص والنماذج الإنسانية أكثر مما يحتمل العرض، والمبالغة فى الإنسانية التى تتعارض مع قسوة الظرف الموضوعى للبشر فى معسكر اعتقال يعلمون فيه أن مصيرهم إلى الموت.
***
إلا أن ما أثاره هذا العرض هو ليس المستوى الفنى إنما تناوله لقضية الهولوكوست باعتباره غزوا صهيونيا ومدخلا للتطبيع، وبالطبع نشرت المقالات وخرجت البيانات التى بدأت بإدانة العرض ولعل معظم من قاموا بذلك كما يظهر من تعليقاتهم لم يشاهدوه وأحزننى أن يكون من بينهم مسرحيون، وتنتهى بالتحريض على فريق العمل مرورا بطلب وقف عرض المسرحية والتى كان مقررا عرضها فى مسرح السلام ضمن عروض مهرجان المسرح القومى بعبارات فاشية تدعى الحقيقة المطلقة وتحتكر الوطنية. وجاء رد الفعل على شكلين الأول يتناول القضية من منطلق حرية الرأى والتعبير دون التفرقة بين المنع من جانب السلطة لأهواء خاصة بها وأهمية القيام بحملات تضطر السلطة لاتخاذ فعل يستجيب لهذه الحملات، كما أنه للأسف مبدأ محترم يتخذه الصهاينة العرب كمدخل من ضمن استراتيجياتهم الجديدة للترويج للتطبيع. أما الشكل الثانى فيدافع عن العرض بحجة أنه يسقط على ما تقوم به إسرائيل فى فلسطين أو بعض المذابح التى تقوم بها النظم الديكتاتورية ضد شعوبها، وهو ما لم أجده بشكل مباشر فى العرض عندما شاهدته، كما أنه ليس من المنطقى فرض رؤية فنية على القائمين على عمل على غرار كان يجب عليكم الإسقاط أو تناول موضوع ما، إذ يبقى هذا حق أصيل لهم نقيم ونحاسب العرض على أساسه وليس على أساس ما يتصور الآخرون أنه كان ينبغى القيام به.
***
للأسف فى وسط هذا الجدل غاب تماما مناقشة مضمون العرض ككل وهل فعلا به ما يبرر لما تقوم به إسرائيل وهل القول بأن النازيين أحرقوا اليهود يبرر لأى عاقل فكرة أن يقوم الصهاينة باغتصاب أرض فلسطين وذبح الفلسطينيين، أم أنه مدخل لإدانة الممارسات الصهيونية فى فلسطين والتى تتشابه مع الهولوكوست، أليس من الأولى أن نستخدم هذه المأساة التاريخية فى أن نتحدث عن الهولوكوست الفلسطينى بدلا من أن ننكر تاريخ ثابت، بالطبع مناقشة الهولوكوست جملة وتفصيلا هو حق أصيل لأى شخص والقوانين الأوروبية التى تحظر ذلك هى قوانين ضد حرية الرأى والتعبير والاستقلال الأكاديمى وهى القوانين التى يجب على الحقوقيين الصادقين فى أوروبا مجابهتها والعمل على تغييرها، ولكن منطق هذه القوانين الفاسد لا يختلف عن منطق من يقولون إن الحديث عن الهولوكوست يبرر المذابح الصهيونية، وبالتالى يطالبون بمنع الحديث عنه تماما. فنصل فى الحالتين إلى تحويل الهولوكوست لتابو لا يمكن الحديث عنه سلبا أو إيجابا أو المساس به من قريب أو بعيد وهو عين ما تسعى له الحركة الصهيونية حيث إن هذه الحالة تسمح لهم وحدهم بإضافة رتوش جديدة تخدم مصالحهم وأهدافهم.
بداية للتعامل مع هذه القضية يجب أن نؤكد أن الصهيونية هى شكل من أشكال الاستعمار، وأن مقاومتها لا علاقة لها بمعاداة السامية، فالمشروع الصهيونى يجب التعامل معه على أنه توظيف لليهود فى إطار المشروع الرأسمالى للسيطرة والنهب وأنها تتمتع لهذا السبب بحماية سياسية وليس لأسباب إنسانية تتعلق بمأساة تاريخية، وبالتالى النضال ضده هو جزء أساسى من النضال من أجل العدالة والإنسانية فى ظل نظام عالمى لم يزد البشرية إلا فقرا وتعاسة ويجرها حاليا إلى كوارث أكبر فى ظل صعود الخطاب الهوياتى والشعبوى.
علينا أن نذكر دائما أن مقاومة الفكرة الصهيونية بدأت أولا داخل الطائفة اليهودية نفسها فى أوروبا، كما بدأت فى فلسطين والشرق العربى قبل عام 1933 ووصول هتلر إلى الحكم. كما يتعين عدم الانجرار وراء التيارات الدينية فى الخلط بين الصهيونية واليهود، فهذا الخطاب يصب فى النهاية فى صالح فكرة الحق التاريخى الذى يدعيه اليهود فى أرض فلسطين وعلينا التأكيد على أن القضية قضية حقوق الفلسطينيين بالأساس، وأن هذا الالتباس بين كلمتَى صهيونى ويهودى لم يبدأ إلا مع تصاعُد الاضطرابات فى فلسطين، كما يبين المفكر جلبير الأشقر فى كتابه «العرب ومحرقة اليهود»، حيث يبيّن أنه نادرا ما بلغت معاداة العرب لليهود الطابع العنصرى الذى عرفته أوروبا، وأن معاناة اليهود العرب لم تبدأ إلا بعد قيام الدولة الصهيونية. باختصار فصل مجرمى الحاضر من الصهاينة عن ضحايا المذابح اليهود فى أوروبا وفضح متاجرة الصهاينة بهذه المأساة، وهو ما يستتبع بالضرورة إدانة جميع المذابح فى أوروبا أو فى فلسطين أو فى أى مكان على هذا الكوكب. وهذه الفكرة التى تعيدنا للعرض، العرض بالفعل عرض يستحق الاحتفاء بكل المقاييس ويستحق أن نشاهده وأن نتأثر بهذه المأساة وأن نتضامن مع ضحاياها وأن نتذكر أن فى زمننا وفى منطقتنا مأساة مشابهة يقوم بها صهاينة لا علاقة لهم بالمأساة التى يقدمها العرض.