هذا المقال يحيل إلى المقال الذى نشرته «الشروق» الغراء على نفس هذه الصفحة للدكتور مصطفى كامل السيد يوم الإثنين الماضى 26 سبتمبر تحت عنوان «تحديات نموذج الدولة الإنمائية فى القرن الحادى والعشرين»، وهو يبنى على مقال كاتبه المنشور أيضا على الصفحة نفسها بتاريخ 4 سبتمبر بعنوان «فى مواجهة المسألة الاقتصادية». الغرض من مقال اليوم هو التشديد على الدعوة إلى اعتماد مصر لسياسات صناعية هى فى أمسّ الحاجة إليها.
• • •
مصر فى حاجة ماسة إلى سياسات صناعية لمعالجة الخلل العميق فى بنية أنشطتها الاقتصادية، فضلا عن انخفاض مكونها المعرفى وإنتاجيتها وتنامى القطاع غير المنظم الناتج عنهما. فى ستينيات القرن الماضى، انتشرت فى عدد من بلدان أمريكا الجنوبية سياسات التصنيع للإحلال محل الواردات، وهى مقاربة عرفتها مصر أيضا فى الستينيات، بل وفى الأربعينيات مضطرة بفعل الحرب العالمية الثانية. على الرغم من المنطق الكامن فيها، ومن نجاحها فى الارتفاع بمستوى الإنتاجية فى البلدان التى أخذت بها، فلقد اصطدمت هذه المقاربة بأنها أدت إلى جفاف معين العملة الأجنبية الصعبة بينما استمرت الحاجة إلى نفس هذه العملة. جف المعين لأن البيع فى الداخل بالعملة المحلية، بينما المدخلات والسلع الرأسمالية تستورد بالعملة الصعبة. توفير العملة الصعبة التى كانت تنفق على استيراد السلع الاستهلاكية ونصف المصنعة، وصارت تنتج محليا، لم يعن الاستغناء عنها. مصر الآن فى وضع شبيه. هى استثمرت واستوردت سلعا رأسمالية لتنفيذ أشغال عامة، أى سلعا غير قابلة للإتجار، وبالتالى فهى لا تدر إيرادات بالعملة الأجنبية تساعد على تسديد أسعار السلع الرأسمالية أو أقساط القروض التى حصلت عليها الدولة لتمويل هذه الأشغال أو غيرها من ضرورات الاستهلاك والإنتاج. إيرادات السياحة وقناة السويس معرضة لنتائج التقلبات فى النظام الدولى، وتحويلات المصريين العاملين فى الخارج رغم ارتفاعها لم تعد كافية. لتسديد ما على مصر من استحقاقات، قروض من صندوق النقد الدولى أو من الصين أو اليابان أو غيرهما، ونقل ملكية بعض الأصول الصناعية أو الخدمية إلى أصحاب رءوس المال العرب أو الأجانب مقابل عملاتهم الصعبة، حتى إن اندرج فى إطار خطة موضوعة بتأن لها منطقها ومقاصدها، وهو ما لا يبدو واضحا، ليست حلولا بعيدة المدى. أقساط القروض، قديمها وحديثها، ستحين لها آجال جديدة، وما تبقى من أموال ساخنة قد يخرج، واحتياجات الاستهلاك والإنتاج لن تنتفى. وفى نفس الوقت فليست كل الأصول قابلة للبيع أو يمكن أن يقبل عليها المشترون لأسباب متعددة. السياسات الصناعية التى تنتج سلعا صناعية وخدمات تحل محل الواردات، وتصدَر إلى الأسواق الخارجية، هى وحدها التى يمكن أن تنمو بقطاعاتها وترتفع بالإنتاجية فيها، فتستمر فى در الإيرادات التى تسمح لمصر بالوفاء بما عليها من استحقاقات عندما تحين آجالها.
• • •
السياسات الصناعية هى عنصر أساسى مما تقوم به الدولة الإنمائية من أجل إعادة هيكلة اقتصاد بلدها النامى، وتحقيق تنميته بذلك، ورفع مستوى معيشة سكانه وتخفيض مستوى الفقر فيه. أمثلة نجاح السياسات الصناعية واضحة، يصعب الجدال بشأنها، فى النمور الآسيوية الأربعة، كوريا الجنوبية، وتايوان، وسنغافورة، وهونج كونج، التى كانت قد اتخذت من اليابان مثالا، والصين من بعدها مثال على نجاح مبهر. على الرغم من هذا النجاح، فمنذ الثمانينيات من القرن الماضى، تعرضت فكرة السياسات الصناعية لحرب لا هوادة فيها من قبل النيوليبرالية المنتصرة سياسيا، وبالتالى فكريا، فى كل من العالمين المتقدم والنامى. جوهر السياسات الصناعية هو اختيار الدولة لقطاعات اقتصادية بعينها تدفع الإنتاج فيها وتسانده من أجل رفع مستويات إنتاجيتها والتشغيل فيها. النمور الآسيوية نجحت فى اختيار القطاعات «الرابحة» وهى اعتمدت استراتيجيات التصنيع الموجه للتصدير فلم تلبث أن فتحت الأسواق الخارجية وارتقت على سلم التنمية والتقدم. الدولة فى كل من هذه البلدان فعلت ذلك وكان أدواتها الإعفاءات الضريبية، والائتمان، ودعم الإنتاج والتصدير. النيوليبراليون لم يكترثوا بذلك وأصروا على أن الدولة فى أى بلد نامٍ غير قادرة على اختيار القطاعات الرابحة، فالدولة غير كفؤة، ثم إنها قابلة للإفساد بل إن الدولة معرضة لأن يستولى عليها القطاع الخاص ذو المصلحة حتى يفوز لنفسه بالموارد التى توفرها الدولة للقطاعات محل الاختيار. السياسات النيوليبرالية جاءت إلى مصر من بوابة اتفاقية الإصلاح الاقتصادى والتعديل الهيكلى فى سنة 1991، كما كانت قد وصلت فى الثمانينيات إلى المكسيك والبرازيل والأرجنتين وتونس والمغرب. صحيح أن اتفاقية سنة 1991 ليست كلها عيوب ولكن أهم ما فيها، وما فى مثيلاتها، الفكر الاقتصادى الذى بثته والداعى إلى أن يترك للسوق وحدها تحديد وجهة النشاط الاقتصادى، وليس على الدولة إلا أن تمهِد الأرض لكل الاقتصاد، بتفكيك الضوابط عنه، وبتحقيق الاستقرار الاقتصادى الكلى، وبتهيئة مناخ الاستثمار، وبحماية الملكية الفكرية، وبضمان تنفيذ العقود. هكذا كفت الدولة فى مصر يدها عن أى تحفيز للقطاعات الإنتاجية، اللهم إلا فى شأن التصدير عبر صندوق تنمية الصادرات فى شكل رد الأعباء التى يتحملها المصدرون فى بعض القطاعات.
مصر لابد أن تعتنق مفهوم السياسات الصناعية بدون أى تحفظ، وأن تضعه فى قلب مقاربتها للتنمية. لحسن الحظ أن الهجوم على السياسات الصناعية قد خفت حدته كثيرا وبالذات منذ الأزمة المالية العالمية فى سنتى 2008 و2009. اقتصاديون كبار مثل دانى رودريك بجامعة هارفارد لا يكفون عن دعوة البلدان النامية إلى الأخذ بسياسات صناعية وعن تفنيد دعاوى النيوليبراليين بشأنها. هل يتكالب أصحاب المصالح الخاصة على المزايا التى تمنحها الدولة لهذا القطاع أو ذاك؟ أصحاب هذه المصالح يتكالبون أيضا على المزايا الممنوحة لقطاعى التعليم أو الصحة العامة ومع ذلك لا يدعو أحد إلى أن تنسحب الدولة تماما من هذين القطاعين. هل يمكن أن تحدث أخطاء فى تصميم السياسات الصناعية؟ نعم، يمكن أن تحدث مثلما تحدث أيضا فى نفس سياستى التعليم أو الصحة العامة أو فى سياسة المعونة الاجتماعية. السؤال ليس هل تأخذ الدول بالسياسات الصناعية أم لا، بل هو كيف يمكن أن تصمم أفضل السياسات الصناعية وأن تطبقها.
يلاحظ أن صيغة الجمع هى المستخدمة فلا توجد سياسة صناعية واحدة بل سياسات قد توجد بينها اختلافات حسب طبيعة السلعة أو الخدمة فى كل قطاع، ودرجة نمو هذا القطاع، وخصائص المنتجين والعاملين فيه واحتياجاتهم. وماذا عن التحديد المسبق للقطاعات الذى يأخذه النيوليبراليون على السياسات الصناعية؟ تتباين مواقف الداعين إلى السياسات الصناعية من هذا التحديد. الأستاذ رودريك يدعو إلى أن تقدم القطاعات الراغبة مشروعات بسياسات صناعية إلى الدولة يجرى الاختيار من بينها وأن تنصب هذه المشروعات على أنشطة جديدة، وأن تعمِق المكون المعرفى فى عملية الإنتاج، وأن ترفع من مستوى الإنتاجية فيها. غيره يرى أن السياسات الصناعية ينبغى أن تُعتَمَدَ فى القطاعات التى توجد للاقتصاد المعنى ميزة نسبية فيها أو تلك التى يوجد فيها أساس متين نسبيا.
• • •
أى سياسات صناعية لمصر؟ نترك مسألة اقتراح السياسات الصناعية لنختار قطاعين قد لا يكونان هما ذوى الآفاق الأوسع ولكن نتخذهما مجرد مثالين. هذان القطاعان هما الملابس والسياحة، نناقش بشأن أحدهما بعض الأدوات الممكن استخدامها، وبشأن الآخر جماعة الفاعلين الذين يمكن أن يشتركوا فى صياغة السياسة الصناعية. هذه الجماعة ومداولاتها ومساهماتها حجر أساس فى نجاح السياسات الصناعية. أهم الأدوات المستخدمة فى السياسات الصناعية تشمل التمويل، والحوافز الضريبية، والتدابير المتعلقة بالتجارة، والمشتريات الحكومية، والضوابط التنظيمية، والمعونة الفنية. فى قطاع الملابس، التدابير المتعلقة بالتجارة يمكن أن تتضمن رد الأعباء كما يحدث فى مصر من حيث المبدأ، كما أنها تشمل المسائل المتعلقة بالشحن والتخزين، فضلا عن دراسة الأسواق الخارجية والطلب فيها وتيسير الاتصال بالمستوردين. المعونة الفنية من جانبها يمكن أن تشمل التقنيات الجديدة فى الإنتاج كما تتضمن نوعية المواد الأولية كالقطن الخام والغزل والنسيج. ولعل المعونة الفنية تمتد لتشمل جهود مراكز الأبحاث للعودة إلى زراعة مساحات معتبرة من القطن طويل التيلة ثم تصنيعه غزلا ونسيجا وملابس تصدَر. الملابس المصنوعة من القطن المصرى ما زالت على سمعتها المرموقة وهى فى أرقى طبقات الأسواق الخارجية والقيمة المضافة فيها أعلى بفارق معتبر عن أغلب الملبوسات الأخرى التى تصدرها مصر أو غيرها فى الوقت الحالى.
بشأن مثالنا الثانى، وهو قطاع السياحة، نستعرض الجماعة المعنية بصياغة السياسة الصناعية فيه. إلى جانب الدولة ممثلة فى وزارة السياحة وهيئة تنشيط السياحة، يمكن أن نتصور أن يشارك فى مجلس لهذه الجماعة اتحاد الغرف السياحية والغرف نفسها ممثلة للقطاع الخاص، ونقابة العاملين بالسياحة والفنادق، ونقابة المرشدين السياحيين، والمطارات، ووزارة الثقافة، والمجلس الأعلى للآثار، وشركة مصر للطيران، وممثلو الشركات المنظمة لرحلات الطيران العارض. يمكن أيضا تصور وجود نفس المجلس على المستوى الإقليمى، كمحافظات البحر الأحمر أو جنوب سيناء أو الأقصر، أو أسوان، أو القاهرة، أو الجيزة فلكل منها خصوصيتها، وعوامل الجذب وإمكانية تنمية العرض فيها، ناهينا عن مشكلاتها المحددة. ويا حبذا لو كان دفع عمل المجالس الصناعية كلها ومتابعته منوطين بوزير مخصص لها.
• • •
نصل أخيرا إلى دور الدولة وهو عظيم الأهمية فى السياسات الصناعية. الدولة يجب أن تكون مستقلة عن الفاعلين الاقتصاديين، فهى التى تختار القطاعات مباشرة أو من بين الاقتراحات المقدمة إليها، وهى التى تطبق السياسات الصناعية. الغرض من استقلال الدولة هو أن تحول دون استغلال الفاعلين الاقتصاديين لها. ولكن وفى نفس الوقت، لا بد أن تكون الدولة على صلة بالجماعة المعنية بالقطاع ومندمجة فيها حتى تعرف احتياجاتها وأولوياتها. فى العصر السلطوى لنمور شرقى آسيا كان استقلال الدولة سهلا وكانت هى السيدة على الجماعة المعنية وإن استمعت إليها وحصلت على المعلومات منها. هذا تحدٍ تواجهه الدولة الديمقراطية، غير أن باحثين شددوا على أنه تحدٍ يمكن التغلب عليه وأعطوا مثالين على ذلك، وهما أوروجواى وجنوب إفريقيا الديمقراطيتان اللتان طبقتا سياسات صناعية بنجاح فى السنوات الأخيرة. دور الدولة يثير بدوره مسألة كفاءتها. الدولة فى مصر ما زالت تضطلع بوظائفها، ولكن انخفاض الأجور فيها والتدريب الشكلى لموظفيها، إن وجد، وبيئة العمل المؤسفة فى أحيان كثيرة انخفضت بمستوى العاملين فيها مع أنهم مشكورون على ما يقومون به فى ظروفهم الصعبة. كفاءة استخدام الأدوات المتاحة للسياسات الصناعية تتناسب طرديا مع كفاءة العاملين فى الدولة. لذلك فإن انخفاض مستوى كفاءة هؤلاء العاملين عقبة فى سبيل صياغة السياسات الصناعية وتطبيقها وتطويعها لأى ظروف مستجدة. سبيل حيوى لكى تنجح الدولة فى مصر فى تحقيق التنمية هو أن ترتفع بمستوى كفاءة نظامها الإدارى.
السياسات الصناعية مطلوبة، ونجاحها ممكن، إذا عزمت الدولة على أن تكون دولة إنمائية حقة.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
الاقتباس:
مصر لابد أن تعتنق مفهوم السياسات الصناعية بدون أى تحفظ، وأن تضعه فى قلب مقاربتها للتنمية. لحسن الحظ أن الهجوم على السياسات الصناعية قد خفت حدته كثيرا وبالذات منذ الأزمة المالية العالمية فى سنتى 2008 و2009.