شغلتنا معركة الميادين عن معركة الصناديق عندما استخدمت قوات الشرطة عنفا أدى لسقوط عشرات الشهداء وآلاف الجرحى فى أيام قليلة، ثم شغلتنا معركة الصناديق عن معركة الميادين حين اصطف الملايين أمام مراكز الاقتراع للإدلاء بأصواتهم فى المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية، والانشغال بالمعركتين بصورة متوازية هو السبيل الأوحد لإنجاح الثورة، وانتزاع السلطة من العسكر، وتوكيد سيادة الشعب على مؤسساته.
وافتراض تناقض معركتى الميادين والصناديق منقوض من جهات، أولاها وحدة المقصد، وهو خروج العسكر من السلطة بالكامل وقصر نشاطهم على المحدد دستوريا من مهام القوات المسلحة، وثانيتها وحدة المنطلق وهو سقوط الشرعية السياسية المؤقتة التى حازها العسكر بحكم الضرورة فى فبراير الماضى والحاجة لخلق شرعية بديلة، وثالثتها الحاجة لظهير مجتمعى لإضفاء الشرعية، يتمثل فى أعداد المعتصمين والمشاركين فى المليونيات فى معركة الميادين، ونسبة المشاركة فى معركة الصناديق.
الخلاف بين المسارين محصور فى أولويات كل طرف، فأهل المعركة الأولى يرون التعجيل بالقصاص والتأكيد على إخراج العسكر قبل الشرعية البديلة، وأهل الثانية يرون الأولوية فى خلق تلك الشرعية لإنهاء حالة الضرورة التى أتت بالعسكر فى المقام الأول، والخلاف هنا إجرائى لا ينبغى أن يكون سببا للفرقة، خاصة مع إمكان الجمع بين مطالبات أطرافه لتسير بالتوازى.
والقراءة فى تجارب خروج العسكر من السلطة تؤكد أهمية توازى المسارات، فخروجهم لا يتم بغير انتخابات، بيد أن شروط الخروج يحددها حجم الحراك المجتمعى المصاحب لها، وهو ما يتجلى فى المقارنة بين تجربتى تشيلى والبرازيل، فالحكم العسكرى فى الأولى انتهى سنة 1989 بعد اضطرابات وانقسامات نخبوية محدودة، وفى ظل اقتصاد جيد، ولم يكن ثمة حراك واسع فى الشارع، الأمر الذى أدى لانتقال السلطة للمدنيين مع بعد كتابة دستورى يحافظ على وضع سياسى واقتصادى مميز للجيش، فى حين جاء خروج العسكر من السلطة فى البرازيل مصاحبا لحراك مجتمعى واسع بدأ بعمال قطاع الصناعات المعدنية سنة 1974، فجاء الخروج بانتخابات أعقبها كتابة دستور ينزع المكتسبات التى حازها الجيش، وانتهاء الحكم العسكرى فى جميع دول أمريكا اللاتينية يؤرخ له بتاريخ الانتخابات (بوليفيا 1982، الأرجنتين 1983، إضافة لتشيلى والبرازيل)، وكذلك الحال فى دول جنوب الصحراء فى إفريقيا، واختلاف شروط الانتهاء مرتبط بالحراك المصاحب للانتخابات، بما يعنى أن الانتخابات شرط ضرورى غير كافٍ لإنهاء حكم العسكر وإنجاح الثورة المصرية، لابد معها من استمرار معركة الميادين.
وتقديرى أن توازى معركتى الصناديق والميادين يستدعى تعريفا أدق لمهام كل منهما، لتصير المهمة الأولى لمعركة الصناديق انتخاب برلمان ينتزع السلطة من العسكر ويعيدهم إلى ثكناتهم، ويؤسس لنظام جديد من خلال دستور يحمى المدنية، ويضمن سيادة الشعب على جميع مؤسساته، وينطلق فى إعادة بناء مؤسسات الدولة وفق هذه الفلسفة، وذلك بالتوازى مع فتح ملف العدالة الانتقالية بشكل جدى، يساهم فى نقل الوطن بأعلى درجات العدالة، وأقل كلفة بشرية وسياسية واقتصادية إلى وضع جديد.
وأما معركة الميادين فتكون مهمتها الأولى انتزاع السيادة من المجلس العسكرى، وذلك له شقان، أولهما إسقاط جميع أشكال التدخل التى يريدها فى المجلس لصياغة الدستور القادم سواء فى نفس الدستور أو فى تشكيل الجمعية التأسيسية أو فى آليات عملها، لئلا يترك له مجالا لخلق سلطة موازية لسلطة الشعب، وذلك بالإسقاط التام والنهائى لوثيقة نائب رئيس الوزراء للتنمية السياسية والتحول الديمقراطى السابق، وثانيهما نقل جميع الصلاحيات التشريعية والتنفيذية إلى البرلمان فور تشكله مع قصر مسئوليات العسكر على دور القائد الأعلى للقوات المسلحة لحين انتخاب رئيس جمهورية، مع التعجيل بهذه الانتخابات لتكون فى أقرب وقت تسمح به التعديلات الدستورية التى تم الاستفتاء عليها، أى فتح باب الترشح فور الانتهاء من الانتخابات البرلمانية.
وتمسك العسكر بالصلاحيات التشريعية وسلطات رئيس الجمهورية لحين انتخابه مردود من جهات، أولاها أن الشرعية السياسية للمجلس مفقودة بانقضاء مدة تأقيتها وفشل الإدارة وقتل المتظاهرين، وثانيتها أن المواد الدستورية التى يستند إليها العسكر للدفاع عن صلاحياتهم غير مستفتى عليها، وبالتالى فتعديلها بغير استفتاء جائز، وثالثتها أن المنطق الديمقراطى يقول بسيادة المنتخب على غيره، والبرلمان سيكون فور انتخابه السلطة المنتخبة ديمقراطيا، ولابد بالتالى أن تكون صلاحياته أوسع من العسكر، وتقديرى أن هذه الصلاحيات التشريعية للبرلمان ينبغى أن يعبر عنها بحكومة ذات صلاحيات كاملة، كتلك الموجودة فى النظم البرلمانية، تحظى بتأييد ثلثى المجلس، لتكون معبرة عن توافق وطنى عام، لا عن لون سياسى واحد.
وتوازى معركتى الصناديق والميادين بهذا الشكل يحدد آليات ومعايير الدعم الشعبى لهما، فإذا كان مقصد معركة الصناديق إخراج العسكر ووضع الأسس المبتغى استقرارها لبناء الوطن فإن ذلك يفرض أولويات مختلفة فى معايير اختيار المرشحين، ليكون المعيار الأول القدرة والرغبة فى إخراج العسكر من السلطة، وهو ما يستلزم قدرا من الاستقلال والنزاهة والحكمة والحزم، والمعيار الثانى هو القدرة والرغبة فى وضع دستور لا يعبر فقط على التوافق المجتمعى، وإنما يؤكد سيادة الشعب على مؤسساته، ويخضعها بالكامل لإرادته، ويمنع تزييف هذه الإرادة كما كان يتم فى السابق، سواء بصورة مباشرة من خلال التزوير أو بصورة غير مباشرة من خلال تنظيم بنية الدولة مؤسساتها على نحو مخل.
وتتبع تلك المعايير معايير أخرى تتعلق بالمهام التشريعية والرقابية للبرلمان، وكلاهما يحتاج لنزاهة وكفاءة، أما التشريعية فتقديرى أنها تحتاج معايير أربعة أخرى، هى أولا التصالح مع الهوية بامتدادها العربى والإسلامى وخصوصيتها المصرية، بما يعنى عدم السعى لبتر مصر عن سياقها الحضارى أو الاصطدام عند مباشرة التشريع بالمستقر عليه من أعراف أو إدخال المجتمع فى صراعات حول الهوية تؤجل القضايا الأهم، وثانيا التمسك بالحقوق المدنية والسياسية للمصريين، ليس بالحفاظ على ما هو موجود فحسب، وإنما بتعميقه وإزالة العقبات القانونية والمؤسسية فى سبيل ذلك، وثالثها الانحياز الاقتصادى للفئات الأقل دخلا، وهو انحياز وطنى لا طبقى، إذ بدونه تنعدم فرصة تحقيق أى نهضة لهذا الوطن، ويستمر الجور القائم على السواد الأعظم من أبنائه، ورابعا التزام سياسة خارجية معبرة عما سبق، تحفظ استقلال مصر عن الولايات المتحدة فى مشروعها، وتؤكد العداء لإسرائيل والتضامن مع الحق العربى من خلال دعم مشروع المقاومة، وإعادة توجيه بوصلة العلاقات الخارجية لتكون أقرب لاسطنبول وطهران منها للرياض وتل أبيب.
تقديرى أن الانتخاب والاعتصام واجبان، وأن تكاملهما يحافظ على الثورة، ولا بد لمن صوت لإخراج العسكر من السلطة أن يشارك فى معركة الميدان الهادفة لنقل السلطة، ولابد لنشطاء الاعتصام وساسة الانتخابات أن يرتكنوا إلى الشعب فى تحركهم ليدعمهم فى معركة السيادة، وهو ما لا يكون بغير تصالحهما لتسير مساراتهما متوازية.