على الرغم من مرور أكثر من ثلاث سنوات على اندلاع الثورة فى مصر، فإن محاولات إصلاح المؤسستين الشرطية والعسكرية ــ فضلا عن الخروج من حكمهما إلى حكم مدنى ديمقراطى ــ لم تؤت ثمارها المرجوة. فالنصوص الدستورية، والتشكيلات الوزارية، والقوانين المنظمة للمجال العام، والممارسات الفعلية، تدل على اتساع نفوذ المؤسسات القمعية، وإن تغيرت علاقاتها البينية. فالدولة البوليسية التى حكمت قبل الثورة بالتحالف مع رجال الأعمال استبدلت بالدولة العسكرية (ذات الواجهات المختلفة) بعدها.
•••
حاول العسكريون منذ البداية الاستفادة من الثورة فى التخلص من النفوذ المتزايد لكل من رجال الأعمال والشرطة. غير أن اتساع نطاق الاحتجاجات الاجتماعية ألجأهم لتطوير تحالف سلطة جديد، ضم الإخوان ــ بوصفهم حركة محافظة ذات شعبية واسعة تمكنها من احتواء مطالبات التغيير ــ والشرطة ــ بعد أن وجهت إليها الثورة ضربة أضعفتها وأخضعتها للسلطان العسكرى. وهذا التحالف ــ الذى بدأ يتشكل فى مارس 2011، وظل متماسكا حتى ديسمبر 2012 ــ ووجه بتحديات كبيرة فى ظل ظرف ثورى أوجد معارضة لتوجهاته لا من قبل الجماهير فحسب، وإنما من قبل قواعد أطرافه الثلاثة، وإن بدرجات متفاوتة. ووجه بتحديات أخرى تتصل بصراعات القوة النسبية لكل طرف فى داخل التحالف. وهكذا، فقد خاض كل طرف من أطراف التحالف معاركه على ثلاث جبهات متوازية: معركة فى داخل الطرف ترمى لتماسكها، ومعركة مع الطوائف الأخرى فى التحالف الحاكم بقصد زيادة النفوذ النسبى، ومعركة فى مواجهة تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية ترمى لاحتوائها والسيطرة عليها.
وقد استفادت «قيادات الطوائف» فى المعركتين الأولى والثالثة من «عفوية» الاحتجاجات وافتقارها للتنظيم، فحرصت على إبقائها كذلك ليتراجع أثرها ويسهل احتواؤها بمضى الوقت. وتغيّر خطاب القيادات بالتوازى مع «تبنّى» مطالب التغيير فى أوجه، إلى التصالح معه، فالتلكؤ فى التعامل معه، فالتشكك فيه، فرفضه مع انحسار أمواجه. وبالرغم من صمود هذا التحالف أمام تحديات صعبة خلال عامين من المد الثورى، فإنه بدأ فى التراجع والانهيار فى ديسمبر 2012 لسبعة أسباب متداخلة رئيسة، هى: ــ فشل الإخوان فى احتواء الاحتجاجات بسبب التناقض بين مشروعهم السياسى والاقتصادى الاجتماعى من جهة، والظرف الثورى من جهة أخرى.
ــ تعمق الاستقطاب السياسى فى ظل اعتماد الإخوان على الإسلاميين واستبعادهم المتزايد للأطراف الأخرى المؤثرة من معادلة الحكم.
ــ تصاعد حدة العنف السياسى وانتقاله من القلب للأطراف بسرعة كبيرة.
ــ تذمر الجيش من التراجع الجزئى لنفوذه فى ظل ميل الرئيس للاعتماد على الشرطة فى القمع الداخلى.
ــ رفض القواعد الشرطية استعمالهم من قبل قيادات الطرف فى الدفاع عن التحالف الجديد إزاء الجماهير.
ــ وتنامى القلق على الدولة من قبل الجيش فى ظل «فشل» المدنيين فى إدارة الملفات الاستراتيجية واحتواء الخلاف السياسى وعجز الإخوان عن التعامل مع المخاوف المتصاعدة على بقاء الدولة.
•••
لم يكن اندلاع الثورة المصرية فى عيد الشرطة 25 يناير قبل ثلاث سنوات مصادفة تأريخية، وإنما كان تعبيرا عن غضب شعبى تجاه الأجهزة الأمنية، تجلى فى مشاهد «جمعة الغضب» (28 يناير 2011) التى أحرقت خلالها عشرات أقسام الشرطة فى المحافظات المختلفة. ومنذ تنحى الرئيس مبارك، كان القضاء على عسكرة و«أمننة» المجتمع مطلبا رئيسا للثوار، تجسد فى مواجهاتهم المتكررة مع الشرطة، والمطالبات المتكررة بتطهير وإعادة هيكلة وزارة الداخلية، والهتاف ضد «الحكم العسكرى».
وبعد مرور ثلاث سنوات، لا تبدو المؤسسة الأمنية أفضل حالا منها قبل الثورة. فلم تتقدم الحكومات المتتالية منذ الثورة بتصور جاد لإصلاحها. كما أن حصيلة قتلى المظاهرات فى النصف الثانى من 2013 تجاوزت أضعاف القتلى فى عامين ونصف العام سبقا ذلك، بل جاوزت عدد قتلى المظاهرات فى العقود التى حكم فيها مبارك. ويبدو المجلس الأعلى للقوات المسلحة اليوم صاحب نفوذ سياسى أظهر من أى وقت خلال الأعوام الثلاثين الماضية، بما فيها المدة التى حكم فيها المجلس مباشرة بعد تنحى مبارك.
•••
وإجمالا، فقد نجحت تحالفات السلطة المختلفة، التى ضمت فى بعض أوقاتها الإسلاميين ثم عادت لقمعهم، فى «حماية» المؤسسة الأمنية من الإصالحات الجادة، ويتبين ذلك من خلال النظر فى العلاقات بين حلفاء السلطة، وكذلك أنماط العلاقات السائدة فى داخل كل من المؤسسات الأمنية ومؤسسات حلفائهم فى الحكم.
شهدت الأشهر الأخيرة من 2013 والربع الأول من 2014 بناء تحالف جديد/ قديم للسلطة، انحيازاته لمنطق السوق لم تتغير، وطرفاه الرئيسان المؤسسة العسكرية والمؤسسة الشرطية. وأما المحل الذى شغله الإخوان فى التحالف فلم يزل فارغا بشكل جزئى، ويملأه العسكريون بشكل جزئى، خاصة مع تصاعد شعبية المشير عبد الفتاح السيسى، وفى ظرف فاشى يتسم بحب الدولة والتخوف من معارضتها، وتخوين المعارضين، وصعود المحافظة على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والدينية جميعا ومن ثم الإدانة المجتمعية الواسعة للاحتجاجات العمالية.
•••
إذا كانت فرصة «التغيير الثورى» قد فاتت ولم تعد مرشحة للعودة فى المستقبل القريب، فإن نوافذ عدة لإصلاحات جزئية ستنفتح خلال الأشهر القليلة القادمة. منها ما يتعلق بحق التنظيم النقابى لضباط الشرطة وهى مسألة مرشحة للطرح بعد استكمال المنظومة الانتخابية(رئاسة وبرلمان)، فى ظل اتساع موجة الاحتجاجات الاجتماعية التى تقودها النقابات المستقلة، والتى قد يضطر الحكام ــ بقوة الأمر الواقع ــ لإزاحة العقبات الدستورية من طريقها. كما قد تدفع الاضطرابات المتوقعة فى داخل الوزارة والتى سبقت الإشارة إليها لإعادة طرح قضية التنظيم النقابى. وقد يساهم اتساع الانتهاكات الحقوقية وتراجع الظرف الفاشى فى تعميق الضغوط من أجل تطوير آليات لحماية حقوق الإنسان من الانتهاكات الشرطية.
أخيرا يمكن أن تفتح مفاوضات «المصالحة الوطنية» المتوقعة بعد الاستحقاقات الانتخابية الباب لبعض إجراءات العدالة الانتقالية وإصلاح المرفقين الشرطى والقضائى. انفتاح نوافذ الإصلاحات الجزئية على هذا النحو سيعيد الكرة إلى ملعب الفاعلين السياسيين والنشطاء الحقوقيين ويختبر ــ مرة أخرى ــ قدرتهم على استثمارها، الأمر الذى يوجب على هذه الجهات المبادرة بمراجعة مقترحات الإصلاح التى قدموها فى ظل ظرف ثورى، وتطويرها وإعادة النظر فيها فى ظل الواقع الجديد.