تحتفل إسبانيا فى السادس من ديسمبر بالعيد الأربعين لاعتماد دستورها الصادر فى سنة 1978. اعتماد الدستور بموافقة 88 فى المائة من المشاركين فى الاستفتاء عليه كان إنهاء لفترة التحول الديمقراطى التى استغرقت ثلاث سنوات بدأت غداة وفاة الجنرال فرانسيسكو فرانكو فى نوفمبر من عام 1975، كما أنه كان إيذانا ببدء عملية شاملة للتطور السياسى والاقتصادى والاجتماعى فى إسبانيا. ما هى أسباب الاحتفالات واسعة النطاق بهذه الذكرى؟ ثم هل تفيدنا شيئا التجربة الإسبانية فى بيان العلاقة بين الديمقراطية والتنمية، وهى الإشكالية الأزلية التى تؤرق السياسيين والباحثين؟
***
أسباب الاحتفالات ليست إلا بيان أن تاريخ إسبانيا المضطرب والدموى فى القرنين الماضيين على الأقل ليس قدرا مكتوبا عليها، ثم هو الاحتفاء بالنجاح فى تحقيق الاستقرار والتقدم فى الأربعين عاما الماضية. القرن التاسع عشر بدأ بمقاومة الاحتلال الفرنسى حيث أرسل نابليون بونابرت جيشه ليغزو إسبانيا وعين واحدا من أشقائه ملكا عليها. بعد التخلص من بونابرت والفرنسيين، عرفت إسبانيا التمردات ومرت بعدد من الحروب على العرش بين فروع الأسرة المالكة وأنصارها، كانت أيضا حروبا بين الاتجاهات المحافظة المتمسكة بالحكم المطلق والمرتبطة بالكنسية، من جانب، وقوى التقدم، من جانب آخر. نشأت جمهورية وسقطت فى القرن التاسع عشر. فى الربع الأول من القرن العشرين تتالت الحكومات حتى فاق عددها عدد السنوات إلى أن استولى واحد من الجنرالات على الحكم وأقام نظاما ديكتاتوريا فيما بين سنتى 1923 و1929. لم يكد الحكم الديمقراطى فى ظل الملكية يعود حتى فر الملك عندما فازت أحزاب داعية للجمهورية فى انتخابات بلدية فى سنة 1931. أعلنت الجمهورية الثانية ولكن القوى الملكية والمحافظة لم ترض بها فاضطربت حياة الجمهورية، ثم بلغ الاضطراب مداه عندما فازت جبهة شعبية، مكونة من أحزاب يسارية، بالانتخابات التشريعية فى فبراير سنة 1936. بعدها بثلاثة شهور، فى يوليو، نقل الجنرال فرانكو تمرده على الجمهورية من تطوان، فى المغرب، التى كانت تحتلها إسبانيا حينئذ، ثم انتقل عبر مضيق جبل طارق إلى إسبانيا، بادئا بذلك حربا أهلية استمرت ثلاث سنوات بين القوات المناصرة له والقوى الفاشية والمحافظة والملكية والكنيسة الكاثوليكية، من جانب، والراديكاليين الليبراليين والاشتراكيين والشيوعيين وغيرهم من اليساريين والفوضويين، من جانب آخر.
***
ليس هذا المقام لتحليل الحرب ومجرياتها. تكفى ملحوظات قليلة بشأنها. الأولى هى أنه راح ضحيتها ما يقدر بستمائة ألف قتيل من الجانبين المتحاربين فى وقت كان تعداد إسبانيا فيه يبلغ 25 مليونا، أى أن الضحايا بلغوا ما يقرب من 2.5 فى المائة من السكان. الثانية هى أنها اعتبرت مقدمة للحرب العالمية الثانية، ومسرحا لتجريب الأسلحة والطائرات فيها، خاصة الألمانية منها حيث ساندت ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية جيش الجنرال فرانكو بالسلاح وبالعمليات الجوية، فى الوقت الذى امتنعت فيه بريطانيا وفرنسا عن تزويد الفريق الجمهورى وحكومته المنتخبة ديمقراطيا بالسلاح. الملحوظة الثالثة هى أن الحرب الأهلية الإسبانية ألهمت خيال المتطلعين إلى العدالة الرافضين للهوة السحيقة التى فصلت الأغنياء عن الفقراء والمستنكرين لأن يكون ثلث سكان إسبانيا عندئذ من الأميين. فى هذه الحرب اشترك «لواء دولى» إلى جانب الجمهوريين وسافر إلى هناك ليؤازرهم ويكتب عنهم وعن الحرب أدباء وفنانون يذكر منهم أندريه مالرو، الكاتب المرموق وزير الثقافة الفرنسية فى عهد الجنرال ديجول، والكاتب الأمريكى الحائز على جائزة نوبل، أرنست همنجواى، والكاتب الإنجليزى صاحب «1984» و«مزرعة الحيوانات»، جورج أورويل. انتهت الحرب بانتصار الجنرال فرانكو فى سنة 1939، ونشأة نظام سياسى شبه فاشى، سلطوى وديكتاتورى، كَبَتَ الاختلاف وقَمَعَ التعدد لستة وثلاثين عاما بل وشل التطور فى إسبانيا حتى منتصف الخمسينيات. اعتبارا من هذه الفترة هاجر ما يقرب من 2 مليون إسبانى للعمل فى فرنسا وألمانيا وغيرهما من بلدان شمال أوروبا، وأفسحت إسبانيا إقليمها لقواعد جوية وبحرية أمريكية، وانضمت إلى الأمم المتحدة، وبدأت السياحة إليها تصبح صناعة مكتملة الأركان، وارتبطت باتفاقية تجارة تفضيلية مع الجماعة الاقتصادية الأوروبية.
الانفتاح المحدود على العالم ترتب عليه فى العقد الأخير قبل وفاة الجنرال فرانكو أن شبه طاقة صغيرة انفتحت أيضا فى النظام السياسى استغله المجتمع الإسبانى فى تكثيف تطلعه إلى الحرية والديمقراطية. هذا التطلع تَرَكَّزَ التعبير عنه فى إصدارات صحفية وفى تجمعات سياسية. فى سنة 1975 اعتلى الملك خوان كارلوس الأول العرش الإسبانى الخالى منذ مغادرة جده للبلاد فى سنة 1931. كان فرانكو قد رتب أن يخلفه حفيد آخر ملك وليس ابنه. هو من جانب لم يرد إنشاء جمهورية كتلك التى تمرد عليها، ومن جانب آخر كان حريصا على بيان أنه ينشئ نظاما ملكيا جديدا. عند اعتلاء الملك خوان كارلوس العرش كانت عملية التحول الديمقراطى الخيار السياسى المنطقى الوحيد أمام مجمل الفاعلين السياسيين المؤثرين، ومنهم الملك نفسه، وجانب يعتد به من أطراف النظام السياسى الفرانكوى نفسه، وكل أطياف المعارضة، من الديمقراطيين المسيحيين والليبراليين إلى الاشتراكيين والشيوعيين، مرورا بالتنظيمات السياسية الإقليمية. التوجه الديمقراطى ساندته أيضا النقابات العمالية الممثلة حقيقة للعمال. لا يعنى هذا أن التحول الديمقراطى لم يكن له أعداء من بين أنصار النظام القديم. كانوا موجودين وأُخِذوا فى الحسبان فى عملية التحول الديمقراطى التدريجية والممتدة لثلاث سنوات. كما أنه كان ثمة اختلاف بين أنصار النظام القديم، فإنه كان يوجد اختلاف أيضا بين أطراف المعارضة، بعضهم أراد كسر النظام القديم تماما وإنشاء بديل خالص له، بينما رأى آخرون التفاوض مع من يريدون من داخله الانسلاخ عنه وإعادة صهره فى شكل ديمقراطى حقيقى جديد. وهذا ما حدث. اشترك الفرانكويون الجدد والديمقراطيون المسيحيون والليبراليون والاشتراكيون والشيوعيون المنتخبون على شكل جمعية تأسيسية فى التفاوض وفى صياغة مواد الدستور. يلاحظ تهيئة المناخ المستقر الضرورى للتفاوض السياسى بالتفاوض المسبق حول المسائل الاقتصادية والاجتماعية والعمالية التى توجت فى سبتمبر 1977 بعقد اتفاقية تناولت دقائق الأجور وارتفاعها، والإنفاق العام، بل ونمو الكتلة النقدية. الفريق الإصلاحى فى النظام القديم، فعلا لا ادعاء، والفريق المناصر للتفاوض وللتحول التدريجى والمتصاعد بين صفوف المعارضة تفاوضوا حتى وصلوا إلى صيغة للتعايش كرسوها فى الوثيقة الدستورية المعتمدة فى ديسمبر 1978. التفاوض والنص الدستورى أخذا فى الاعتبار البيئة المحيطة. كثير ممن حاربوا مع فرانكو فى الثلاثينيات كانوا لا يزالون فى الخدمة. الشروع فى محاكمات عن جرائم ارتكبت فى فترة الحرب الأهلية أو بعد نهايتها كان يعنى تعريض كل عملية التحول الديمقراطى للخطر. لذلك لم تعرف إسبانيا، كما عرفت اليونان قبلها أو البرتغال، محاكمات عن فترة الديكتاتورية، ولا هى أنشأت لجنة للحقيقة والمصالحة، كتلك التى عرفتها من بعد شيلى أو جنوب إفريقيا. البراجماتية طبعت عملية التحول الديمقراطى الإسبانية.
***
من المسائل الأساسية التى تعرض لها الدستور علاقة الدين بالدولة والتنظيم الإقليمى لها. الدستور نص على أنه لن يكون للدولة دين، على أن تأخذ السلطات العامة فى الاعتبار المعتقدات الدينية للمجتمع، وهذا نص ثورى فى إسبانيا شديدة الكاثوليكية تاريخيا. أما التنظيم الإقليمى فمن الدولة شديدة المركزية التى حكم من خلالها فرانكو وتمسك بها أنصاره، انتقل الدستور إلى تقسيم البلاد إلى 17 إقليما يتمتع بالحكم الذاتى ويختص بمسائل الصحة والتعليم وبعض أشكال التنظيم الاقتصادى وبجانب من وظائف الشرطة، بينما تركت مجالات الدفاع والسياسة الخارجية والسياسة الاقتصادية الكلية والتجارة الخارجية للحكومة المركزية. اعترف الدستور بالأقاليم وبوجود قوميات ولكنه ترك مصطلح الأمة لإسبانيا وحدها.
***
الديمقراطية كانت مطلبا فى حد ذاتها، ولكنها كانت أساسا المنهج الضرورى للتصدى لقضايا المجتمع المتخلف أوروبيا. هل استطاعت الديمقراطية التصدى بكفاءة لهذه القضايا أم أنها كانت سببا للفوضى وانفراط العقد؟ إسبانيا كانت تواجه إرهاب منظمة «إيتا» منذ نهاية الخمسينيات الذى راح ضحيته ما يقرب من تسعمائة قتيل. «إيتا» هُزِمَت وحلت نفسها فى يونيو من العام الحالى. صار 36 فى المائة من الإنفاق العام يجرى عن طريق الأقاليم المتمتعة بالحكم الذاتى بينما كانت هذه النسبة 3 فى المائة فى عام 1980. شبكة الطرق العتيقة جرى تحديثها. أصبح فى إسبانيا أطول شبكة للسكك الحديدية فائقة السرعة فى أوروبا والثانية فى العالم. شبكة الألياف البصرية لنقل البيانات فائقة السرعة تغطى 75 فى المائة من السكان. المنتدى الاقتصادى العالمى صنف إسبانيا على أنها الثالثة عشرة من حيث البنية الأساسية من بين 137 دولة. متوسط الدخل الفردى بالقيمة الثابتة للدولار ارتفع من 8000 دولار سنة 1978 إلى 38285 دولار سنة 2015. اجتماعيا إسبانيا هى البلد الأول عالميا فى التبرع بالأعضاء ونقلها، وفى التخصيب بمساعدة، وفى الاكتشاف المبكر للسرطان، وفى التأمين الصحى الشامل لجميع السكان، وفى توقع العمر عند الولادة بعد اليابان، وفى استخدام مصادر الطاقة النظيفة، وفى غير ذلك. إسبانيا المعروفة تاريخيا بذكوريتها أصبحت أقل بلد فى أوروبا فى ممارسات العنف ضد المرأة، أقل حتى من فنلندا والدانمارك والسويد.
وفى أربعين عاما من الديمقراطية تحققت التنمية وكذلك الاستقرار. توالى على إسبانيا فى هذه الفترة سبعة رؤساء للحكومات، مثل بريطانيا، بينما عرفت إيطاليا 25 رئيسا للحكومة بعضهم تولى الرئاسة أكثر من مرة. هذا البلد الذى لم يعرف الديمقراطية إلا لماما فى تاريخه، تصنِف مجلة الإيكونوميست البريطانية ديمقراطيته الآن فى مستوى أعلى من إيطاليا وبلجيكا وفرنسا. فى مسألة الحركة الانفصالية فى كتالونيا، لم يتهم أحد الديمقراطية بالتسبب فيها. تعديل الدستور لكى يلائم توزيع السلطات على الأقاليم الواقع الحالى هو المنهج المرجح لمواجهة المشكلة.
كان الجنرال فرانكو مقتنعا بأن الإسبان لا يمكنهم التعايش فى سلام. نظرية أن إسبانيا حالةٌ استثنائية، تشذ على معايير الديمقراطية، كانت شائعة.
الممارسة الديمقراطية أثبتت خطأ هذه النظرية.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة