إسناد الاحتجاجات العراقية، وما يتعرض له متظاهروها من تقتيل ومجازر، إلى طرف ثالث مجهول هروب من مواجهة الحقائق إلى الادعاءات.
لكل حدث احتجاجى بمثل هذا الحجم أسبابه وسياقاته وخلفياته، فلا شىء ينشأ من فراغ.
باليقين هناك تدخل إقليمى ودولى فى إدارة الأزمة العراقية المتفاقمة، بالضغوط السياسية أو بالتحريض على العنف المفرط.
هذا النوع من التدخلات لا يرادف أحاديث المؤامرات المعتادة بقدر ما يعكس مصالح أطراف تخشى خسارة نفوذها.
المؤامرات إحدى وسائل السياسة الخارجية للدول فى التدخل بشئون دول أخرى، أو توظيف ما يحدث فيها لمقتضى مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية.
المؤامرات تمر من الثغرات، وهذه مسئولية السياسة قبل الأمن.
هذه قاعدة عامة لا تسرى على العراق، الذى لا يمتلك قراره ونظامه هش وثغراته تمرر قوافل أفيال إلى حيث تدهس أى أمل فى المستقبل.
اتساع الاحتجاجات العراقية تعبير عن ضيق عام بالسياسات المتبعة ومدى الفشل فى تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين وحجم الفساد المستشرى فى مؤسسات الدولة.
الأنين الجماعى من تفاقم الأحوال المعيشية، الذى شمل الطوائف جميعها ولفت الانتباه العام إلى ما يجمعها فى طلب دولة المواطنة، شهادة إفلاس مستحقة لنظام لا يستحق البقاء.
الشرعية مسألة قبول عام قبل أى اعتبار آخر، إنها مثل خيوط الصلب قد يصعب رؤيتها لكنها تستعصى على الكسر.
إذا ما اتسعت الاحتجاجات فى أى بلد فإن هذا يؤشر إلى أزمة شرعية مستحكمة، وإذا ما جرت مجازر بحق متظاهرين سلميين فإن سقوط نظامها مسألة وقت.
بصيغة أخرى: مات النظام العراقى إكلينيكيا ولم يعد متبقيا سوى نزع الأجهزة الاصطناعية التى يعيش عليها.
تعود جذور الأزمة العراقية إلى ما حدث بعد احتلال بغداد عام (2003)، فككت دولتها بالكامل، حل جيشها وأجهزتها الأمنية، وأرسيت قواعد المحاصصة الطائفية فى البلاد على يد السفير الأمريكى «بول بريمر» الحاكم الفعلى إثر الاحتلال.
كان ذلك تأسيسا لـ«عراق ضعيف» منقسم على نفسه توحشت فيه الصراعات المذهبية والعرقية، واستأثرت بمقاديره السياسية والاقتصادية والاستراتيجية نخب حاكمة أقل ما توصف به أنها فاسدة وقرارها خارج حدودها.
كما وجدت فى بيئته المحتقنة جماعات العنف والإرهاب حاضنتها.
الانفجار العراقى يلخص حجم الغضب المتراكم على مدى ستة عشر عاما منذ احتلال بغداد.
بمعنى آخر فإن نظام «بول بريمر» يوشك على الرحيل.
مخاض الميلاد الجديد سوف يكون عسيرا وتكاليفه الإنسانية باهظة بقدر حجم المصالح التى ترسخت على الأرض وحجم التدخلات الإقليمية والدولية التى تحكم معادلات الحكم الحالى.
كانت إسرائيل المستفيد الأول من التحطيم المنهجى للعراق ومقدراته، حرضت على غزوة متحالفة مع اليمين الأمريكى المحافظ، أو ما كان يطلق عليهم «أمراء الظلام»، بادعاء ثبت كذبه أنه يمتلك أسلحة دمار شامل.
كانت هناك خشية إسرائيلية معلنة من أن يتمكن العراق بمعدلات نموه المرتفعة وحجم التطور فى بنيته العلمية أن يخرج من دائرة العالم الثالث ويمثل تهديدا وجوديا لها.
بتقويض الدور العراقى انفسح المجال واسعا أمام ما كان يطلق عليه «الشرق الأوسط الجديد»، أو إعادة هندسة الإقليم، حتى تكون إسرائيل مركز القيادة فيه.
استخدمت على نطاق واسع النزاعات الطائفية والمذهبية والعرقية لمحاولة تفكيك الدول العربية ورسم خرائط جديدة.
الانفجار العراقى رد فعل تاريخى متأخر لكنه طبيعى على تلك اللعبة التى أنهكته وأضعفته وأفقرته وأسلمت مقاديره لغير شعبه.
فيما قيل لتسويغ المحاصصة الطائفية فى تقاسم السلطة والنفوذ والثروة أنها استلهام للنموذج اللبنانى، وقد تردد تعبير «لبننة العراق» على نطاق واسع.
المثير للالتفات أن اللبنانيين انتفضوا بوقت واحد مع العراقيين تحت سقف رفض الدولة الطائفية، التى أفضت إلى تهميشهم كمواطنين لصالح أمراء الطوائف.
فى الحراكين العراقى واللبنانى ارتفعت نداءات دولة المواطنة والحقوق المتساوية للمواطنين فى تقلد الوظائف بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية.
كانت تلك رسالة بالغة الإيجابية إلى المستقبل أن تقسيم العالم العربى لن يمر بالسهولة التى تصوروها عند احتلال بغداد.
فى أعقاب سقوط عاصمة الرشيد تقدمت قوتان إقليميتان كبيرتان لملء الفراغ المترتب على ذلك السقوط، فالتاريخ لا يعرف الفراغ الاستراتيجى.
تقدمت تركيا بقوة نموذجها الصاعد فى ذلك الوقت لكى تمسك بمقاليد القيادة الإقليمية، اقتصادها كان قويا ومعدلات النمو مرتفعة، والنموذج يسوق نفسه باعتباره مزيجا بين العلمانية والإسلام، حتى إنه تردد فى مراكز الأبحاث التركية أن القرن الحادى والعشرين سوف يكون تركيا.
النموذج انكسر بأوهام «العثمانية الجديدة» والتورط فى الأزمة السورية بدعم وتمويل جماعات إرهابية بينها جبهة «النصرة» وملفات عربية أخرى مثل ليبيا، وتدهور قيمة الليرة التركية والتقلص الفادح فى الحريات العامة وتحول تركيا إلى دولة الرجل الواحد.
هكذا انتقلت من «صفر مشاكل»، بحسب تعبير وزير خارجيتها الأسبق «أحمد داود أوغلو» إلى «كل المشكلات» مع أغلب دول الإقليم.
كما تقدمت إيران بنفوذ مشروعها الإقليمى وخطابها ضد التوسعين الأمريكى والإسرائيلى لتملأ الفراغ الاستراتيجى فى لحظة بدا العالم العربى فيها مترنحا بأعقاب اتفاقيتى «كامب ديفيد» وخروج مصر من الصراع العربى الإسرائيلى.
اكتسبت أرضا سياسية لم تكن لها من قبل، تمركزت فى مركز قوة نسبى بأزمات عديدة خاصة الأزمة السورية.
تلخصت مشكلتها فى صعوبة هضم ما تمكنت من التمدد فيه، وبدت أوضاعها الداخلية تحت الضغوط الأمريكية الاقتصادية منكشفة وطالتها احتجاجات اجتماعية هزتها بعمق.
لم تكن تلك محض مؤامرة، كما قالت القيادات الإيرانية، رغم التحريض الأمريكى المعلن والمتواصل.
من مصلحة إيران سد الفجوات مع العالم العربى وإيجاد حلول سياسية للأزمات التى استنزفت الطرفين، فالاستعلاء بالقوة لا يؤسس لأدوار حقيقية قادرة على الاستدامة وتحقيق مصالح شعوبها.
بتلخيص ما لم يتمكن أحد من ملء فراغ الدور العراقى ولا فراغ ما ترتب على «كامب ديفيد» من نتائج وتداعيات.
هذه رسالة أخرى من بين موجات الغضب فى الانفجار العراقى.