قال لنا مسئول القنصلية المصرية فى شنغهاى، ونحن فى طريقنا من المطار إلى المدينة، إن الكوبرى الهائل الذى نمر عليه ويأخذنا إليها فى نحو الساعة، بنى فى 5 أشهر. «الصينيين مسخرين العفاريت للعمل معاهم»، أضاف الرجل بينما صورة محور 6 أكتوبر تعبر خاطرى. ومنذ الساعات الأولى للزيارة انكشف أمامنا العفريت الحقيقى الذى يقف وراء كل العجائب التى تقوم بها الصين فى زمن الانقباض الاقتصادى العالمى: الدولة.
ولم تذهب مجلة الايكونوميست البريطانية العتيدة بعيدا عن هذا التوصيف، فى التحقيق الأساسى لعددها قبل الأخير عن عودة الدولة للاقتصاد فى العالم، تحت عنوان الليفياثان يتحرك مرة أخرى. والليفياثان، أو هو وحش البحر، الذى هو أحد سبعة أمراء للجحيم، فى الإنجيل.
ولا يخفى المدلول السلبى لوصف الإيكونوميست، التى تشير إلى انتهاء رسالة أنبياء الخصخصة للحكومات بارتداء سترة نجاة الليبرالية الجديدة، وسرعان ما يجئ الرخاء.
لكن وحش البحر، الذى يهدد كل ما استقرت عليه الحكومات فى أوروبا وأمريكا ومعها العالم النامى ومنه مصر، أثبت مناعة كبيرة فى مواجهة الأزمة العالمية بل وبدأ يقتحم ملعب العولمة على أصحابه.
وبينما الظاهرة تشمل روسيا والهند والبرازيل أيضا، فإن الصين تبدو نسيجا وحدها. أنهت هذه الدولة، التى يسكنها مليار و400 مليون شخص، تحولوا إلى طاقة إنتاجية هائلة وليس عبئا، كما يحلو لعفريتنا أن يصور، عام الأزمة فى 2009 بمعدل نمو اقتصادى 10.7% فى الربع الأخير مقارنة بالعام السابق، و8.7% فى العام كله. ليس هذا فقط بل نما الإنتاج الصناعى فى نفس الفترة بـ18.5%، وهو معدل هائل دعا جريدة الفايننشيال تايمز للتعليق عليه قائلة: هل تنمو الصين أكثر من اللازم؟
الجديد أيضا ليس فقط أن الصين ستنتزع مرتبة ثانى أكبر اقتصاد فى العالم من اليابان، وإنما أن شركاتها «الحكومية»، المملوكة للعفريت، اقتحمت السوق العالمية واحدة تلو الأخرى، فهذه واحدة حصتها 40% من قطاع بناء مصانع الأسمنت فى العالم، وهذه أخرى تقتحم أسواق 100 دولة فى تكنولوجيا الاتصالات، وهذه ثالثة هى بتروتشاينا، تفرض نفسها على قوائم أكبر الشركات فى العالم.
عفريت الدولة الصينى بدأ العمل منذ ما يقرب من 20 عاما ليحول الاقتصاد النامى المتعثر بثقل الكتلة السكانية إلى اقتصاد متقدم، تشهد شوارعه وخدماته التى لا تفرق بين المواطنين إذ يستخدمها الجميع دون تفرقة، كمحطة القطار مثلا، بأن ثماره بدأت تتسرب قليلا فقليلا من المستفيدين فى الحزب وطليعة رجال الأعمال إلى عموم المواطنين.
وبرغم أن دولة الصين قائمة على حكم حزب واحد وعلى يد حديدية فى مواجهة المعارضين، إلا أنه لا يمكن فهم موجة التنمية التى بدأت فى أوائل التسعينيات دون وضعها فى إطار تخلى الدولة عن بعض من سلطاتها للمحليات فى الصين، لنقل النمو الاقتصادى من الشريط الشرقى الضيق إلى باقى البلاد. وقد شهد العام الماضى تحولا كبيرا فى حجم إنفاق الدولة على التعليم والصحة.
وبالتأكيد فإن لعفريت الدولة الاقتصادى الصينى حدودا. ينبع جزء منها من أنها برغم كل شىء مرتبطة ومعتمدة على الاقتصاد العالمى، خاصة الأمريكى. كما أن الدولة هنا تظل قائمة على منطق الإنتاج الرأسمالى، وخدمة السوق، وبالتالى هى عرضة واقتصادها عرضة لأزمات الرأسمالية الدورية وغير الدورية، بالضبط كما كانت رأسمالية الدولة الكينزية فى بريطانيا وغيرها عرضة لهذه الأزمات فيما تلا الازدهار الكبير عقب الحرب العالمية الثانية.
لكن الملهم فيما حدث فى الصين هو أن للرأسمالية حتى على طريقة وحوش العهد القديم والإنجيل جانبا تنمويا ينال العمال والفلاحون أحيانا جانبا منه، وهو ما لم يقدمه لنا عفريتنا، منذ أوائل السبعينيات، لا فى نسخته التى قادها القطاع العام، ولا تلك التى باعت القطاع العام.
وفى الأشهر الأخيرة بدأت حكومتنا تلتفت إلى ما تحققه الصين. لكن يظل هذا التوجه، حتى هذه اللحظة، محددا بنفس الإطار الفكرى. فالصين سوق لصادراتنا، أو مورد للاستثمارات، أو خبرة فنية فى بناء المناطق الاقتصادية الخاصة.. إلخ. أما الصين كمفهوم اقتصادى رأسمالى مغاير تماما، فكأنه غير موجود.
فى خطاب التنصيب قال الرئيس الأمريكى باراك اوباما إن السؤال هو ليس حول حجم الدولة ودورها فى الاقتصاد وإنما إذا ما كانت الدولة ناجحة. وتقول الإيكونوميست إن الإجابة الجادة على السؤال الأخير غير ممكنة دون طرح قضايا أساسية تتعلق بما يجب أن تفعله الدولة فى الاقتصاد.
هذا السؤال لا تطرحه حكومتنا على الأجندة إلا باستثناءات بسيطة تتحدث عن براجماتية اقتصادية عامة غير كافية لصياغة سياسات عامة. وهذا الأمر مبرر إذ إن دولة الصين هى عفريت بالنسبة لما استقرت عليه دولتنا من ولاء كامل لاقتصاد سوق يعطى أولوية نهائية لرجال الأعمال على كل شىء. ولاء جعل منها عفريتا قليل الكفاءة، لا يستطيع رصف طريق دون أن يحتاج لإصلاحه بعد شهرين، عفريتا يظهر فى كوابيس 20% من السكان تحت خط الفقر، و40% على حافته، ونصفهم الذى لا يجيد القراءة والكتابة.