بعد اغتيال الخليفة عمر، لم يعد المسلمون أبدا كما كانوا، انتهت الوحدة وانتهت الفترة المثالية النقية لعصر الرسول، لم يكن قد مر على وفاة الرسول محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ سوى ١٢ عاما، ورغم ذلك تغير تاريخ المسلمون جذريا ودخلوا فى حقبة جديدة لا تعرف الدين، بقدر ما تعرف السياسة، لا يعنى هذا أن الدين لم يكن مرجعية، فى الحقيقة منذ عهد عثمان وحتى انهيار الإمبراطورية العثمانية ظل الدين مرجعية رئيسية للغالبية العظمى من الخلفاء، لكن هنا كانت الأزمة، كل فريق استخدم الدين كمبرر لتصرفاته وأفعاله مهما كانت دموية أو تآمرية، تم تطويع الدين لصالح السياسة، لصالح النفوذ والقوة، لصالح المناصب والقبليات والعصبيات التى جاءت رسالة الإسلام فى الأساس كى تحاربها!
بينما كان عمر فى مرحلة الاحتضار كان يفكر فى تثبيت أركان الدولة من بعده فعين لجنة سداسية قرشية لاختيار الخليفة، كان أهل المدينة خارج الصورة تماما، لم يعد لهم فرصة حقيقية فى اختيار الخليفة، وهو ما يقوض تماما مفهوم الشورى المفترض فى مرحلة الخلافة الراشدة كما سبقت الإشارة، كانت شورى محدودة ليست فقط بين الحكماء أو الأشداء أو الصحابة، ولكنها أيضا استبعدت وميزت ضد سكان مناطق جغرافية بعينها لظروف سياسية وتاريخية معقدة.
كان أبرز المرشحين عثمان وعلى، وقع اختيار اللجنة على عثمان، رغم أن التوقعات كان تشير للأخير، لكن اللجنة القرشية كانت مشغولة باختيار خليفة قوى ليحل محل خليفة بكاريزما وقوة عمر، كان الاعتقاد أن عثمان هو الخيار الأفضل. لم يرضَ على بالقرار ورأى أنه ربما كان الأحق بالخلافة، وأصبح من كبار معارضى عثمان. أما الأخير فلم يكن على قدر التوقعات، عانى عثمان مما يعانى منه أى قائد يأتى بعد زعيم قوى وذى كاريزما، تم مقارنة عثمان بعمر وعجز الأول عن إقناع الجميع بشرعيته، انقسم المجتمع الإسلامى مبكرا على تأييد عثمان، تم اتهام عثمان بالمحسوبية والوساطة، كما فشل عثمان فى أهم سياسة نجح فيها عمر ألا وهى إرضاء الجيش، لم ينجح عثمان فى الحفاظ على دعم كل فصائل الجيش، الكثير من الجنود لم يكونوا راضين عن المعاشات وعن توزيع أرباح الأراضى المسيطر عليها، لم يعجب الجنود بظروفهم المعيشية الصعبة فى مقابل رخاء المدنيين، صحيح أن الجيش لم ينقسم على عثمان، لكن كان عدم الرضا هذا مؤشرا مبكرا على متاعب تنتظر فترة حكمه.
كذلك فلم يرضَ الكثيرون عن الأداء الاقتصادى للدولة الإسلامية، لم ينجح عثمان فى سياسة توزيع الموارد، كما حاول زيادة الفتوحات الإسلامية مما وضع الميزانية تحت الكثير من الضغوط، تزايدت الاعتراضات فى مصر وفى العراق وفى كبرى مدن الدولة الإسلامية وبدا أن ولاية عثمان تترنح بالفعل، تعرض عثمان للاعتداء فى المسجد على خلفية تصاعد الاحتجاجات على سياساته، وبدأت شعبيته فى الانهيار التدريجى ووصل الأمر إلى انتفاضات ضد حكمه فى العديد من البقاع الإسلامية، حتى أن عليا كان يقود بعضها ويعمل كمتحدث رسمى عن البعض الآخر، إلى أن تم اغتياله ليكون الخليفة الثانى على التوالى الذى يتعرض للاغتيال، وإذا كان من قتل الخليفة عمر هو «عبد» من الفرس، فإن عثمان تعرض للقتل على يد مسلم وهو ما يعد مؤشرا قويا على تزايد الانقسامات فى عهد عثمان وإلى تفكيك تدريجى فى أوصال دولة الخلفاء الراشدين، وقطعا كانت هذه هى البداية لسلسلة طويلة من القتل والانتقام والتمثيل بالجثث استمرت لقرون.
***
بعد مقتل عثمان تولى على القيادة حيث وقف فى صفه العديد من الصحابة. لم يكن الأمر سهلا، فالفتنة السياسية كانت قد بدأت بالفعل، وبدأت تأخذ أشكالا أكثر خطورة، موقعة حربية بقيادة السيدة عائشة وطلحة والزبير لكى يرتدوا على حكم على محملين إياه التهاون فى محاكمة قتلة عثمان، وبين أنصار على فيما عرف بموقعة الجمل، حيث قتل طلحة والزبير وأرسلت السيدة عائشة دون أن يمسسها أحد إلى المدينة احتراما لها ولكونها من زوجات النبى، ورغم تلك النهاية المحافظة لمعركة الجمل إلا أن النار كانت قد اشتعلت فى أرجاء الدولة الإسلامية، فمعاوية رفض البيعة لعلى وقاد تمردا أمويا فى سوريا ضد الخليفة تحدى فيه شرعية الأخير السياسية وقادت تلك الخلافات إلى معركة أخرى كبيرة بين المسلمين (معركة صفين)، وبدا أن جيش الخليفة فى طريقه إلى الانتصار فطلب معاوية تسوية الأمر بالتحكيم بناء على نصيحة عمرو بن العاص الذى كان قد انضم إلى معاوية.
كان التحكيم فرصة ذهبية لوأد الخلافات والانقسامات وإعادة الوحدة إلى الدولة الإسلامية، لكن فوت المسلمون تلك الفرصة، حيث استمر اجتماع لجنة الوساطة لشهور قبل أن تأتى النتيجة فى غير صالح الخليفة على، فاعترض الأخير وادعى أن اللجنة لم تحكم وفقا للقرآن والسنة فى محاولة سياسية للتهرب من الحكم، فعاد الانقسام مرة أخرى بين الجيشين المتصارعين، بل وزاد الطين بلة أن مجموعة من مؤيدى على (الخوارج) قد انفصلوا عنه لأنه قد قبل بمبدأ التحكيم من الأصل مما دعا الخليفة إلى ارتكاب مذبحة بحقهم، لتزيد الأمور سوءا ويعلن معاوية نفسه كخليفة للمسلمين وتتنازع الشرعية السياسية والدينية بين الخليفتين، فتحاول لجنة التحكيم التدخل مرة أخرى لكنها لا تصل إلى أى حلول.
***
كان معاوية فى وضع أفضل عسكريا، تمكن من احتلال مصر وحافظ على وحدة صفوفه بعكس على، ورغم ذلك كان معاوية من الدهاء بحيث إنه لم يواجه جيش على بشكل مباشر، اكتفى بالحفاظ على أراضيه ثم حاول استقطاب أنصار على، إلى أن تم اغتيال الأخير وقبل أن يتمكن شيعة على من مبايعة الحسن تمكن معاوية من الحصول على مبايعة الأغلبية ليصبح خليفة للمسلمين وتنتهى مرحلة الخلافة الراشدة لتبدأ مرحلة جديدة اعتمدت على العصبية والقبلية وروابط الدم والمصاهرة وهى كلها قيم وأدوات سياسية منافية تماما للرسالة الإسلامية، لكنها كانت العنوان الأبرز لتاريخ المسلمين حتى انتهاء الخلافة العثمانية.
يتعامل الكثيرون مع تلك الحرب الأهلية بحساسية شديدة، ويفضل البعض استخدام لفظ «فتنة»، كوسيلة للهروب من الحقيقة، الفتنة كما أراها فى هذا السياق هى محاولة لعدم الاعتراف بحقيقة الصراع وكأنه وقع نتيجة لتآمر البعض، لكن الحقيقة أنه صراع سياسى على النفوذ والسلطة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
انقسم المسلمون إلى سنة وشيعة، ولاحقا إلى عشرات المذاهب الأخرى، انقطع المسلمون من بعد عمر عن دولة الرسول وعن قيم الإسلام النقية، وتحولت العلاقة بين الإسلام والسياسة من علاقة تناغم وانسجام حيث يقود الإسلام الخطوط العريضة للسياسة، إلى علاقة انتهازية حيث تستغل السياسة الإسلام وتطوعه لصالحها ولصالح شرعيتها.
النظر إلى تاريخ الإسلام فى الفترة بين وفاة الرسول وبين مقتل على ــ وهى فترة لم تستمر سوى لعدة عقود معدودة ــ أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن الأصل لم يكن إلزام السياسة والحكم بأحكام الشريعة ولا بالقيم الإسلامية، بل إن السياسة وشئون الحكم كانت فى معظم الأحوال تفاعلات بين مجموعة من معادلات القوة المعتمدة على عناصر السلطة والدهاء والتآمر بل ووصلت الأمور إلى إراقة الدماء والخيانة والمذابح، وكلها أمور نناقشها فى المقالات القادمة.