لا يمكنك الحديث عن عبد الحليم حافظ دون أن تتذكر محمود عوض، ليس لأنهما كانا صديقين، أو لأن عملا دراميا إذاعيا جمعهما، وليس لأن كليهما عندليب، الأول كان يشدو بحنجرته والثانى بقلمه، بل لأن ما يجمع الاثنين هو الصدق.. فكما نصدق عبد الحليم وهو يغنى، نصدق محمود عوض وهو يكتب.
غير أن هناك أسبابا أخرى عديدة تجعل الكتابة عن محمود عوض واجبا وطنيا وإنسانيا نبيلا، ليس فقط لأنه كان رحمه الله أنبل وأنبغ صحفيى جيله، وإنما لأنه كما كان يفاجئنا بكتابة مدهشة حيا، ها هو يفاجئنا ميتا، بكتاب أهدانى إياه شقيقه طه عوض قبل أيام.
وأزعم أن هذا الكتاب الذى صاغه محمود عوض فى أيام مرضه الأخيرة، وصمم على الانتهاء منه بينما خرطوم الأدوية معلق فى يده ــ كما يروى شقيقه ــ هو أجمل وأهم ما كتب عن ملحمة حرب الاستنزاف، على الأقل بالنسبة لى.
الكتاب يحمل عنوانا لافتا «اليوم السابع: الحرب المستحيلة.. حرب الاستنزاف» ويحكى قصة ذلك اليوم الذى امتد من يوليو 1967 حتى أغسطس 1970، هو يوم بأكثر من ألف يوم مما يعدون يحكى فيه محمود عوض بعذوبة قلما تجدها فى الكتب السياسية والعسكرية قصة حرب الحرب المستحيلة ويعتذر لسبعة آلاف شهيد سقطوا فيها دون أن يذكرهم أحد.
يقول عوض فى مقدمة الكتاب الصادر عن دار المعارف «من أجل هؤلاء الشهداء فقط، نعود الآن إلى فتح ملف تلك الحرب بكاملها».
ويضم الكتاب وثائق يعتز مؤلفه بأن النسبة الكبرى منها يتم نشرها لأول مرة، وحقائق جديدة تؤدى إلى إعادة النظر فى كثير من المفاهيم السائدة طوال السنوات الأخيرة.
ولأن هذه المساحة لا تتسع لاستعراض ما جاء بين دفتى الكتاب فإنه من الأفضل أن نتوقف أمام الكاتب الذى يتعامل مع الكتابة بروح متصوف متعبد فى محراب الحقيقة حتى النفس الأخير، وتأمل معى إلحاحه على شقيقه أن يحضر له الأوراق والقلم لينجز كتابه الأخير وهو على فراش الموت وخراطيم الدواء تتدلى من جسده النحيل، ثم ينهض ويكتب على طريقة «إن قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة فليغرسها».
يقول عوض على الغلاف الأخير «أرجو أن يحمل هذا الكتاب بعض العزاء لشهداء الجيل الذى أنتمى إليه» ويضيف: «هذا الجيل دفع ثمن تلك الحرب عن اقتناع» و«إيمانا بقضية أن تكون لك كرامة وأن تعيش مرفوع الرأس». فعلا.. تلك هى القضية، أن تعيش مرفوع الرأس؛ سلام عليك يا محمود عوض.