عندما تتعدد الظواهر المُجَسِّدة لرجوعية المجتمع إلى الوراء، مقارنة بالذات، أو بالآخر، يكون الشأن العام أقرب إلى "خرابة" يغرف منها المرتزقة، من داخل البلاد أو من خارجها (علاقة الشأن العام بحركية الزمن – الشروق – 16 أغسطس 2023).
فى هكذا حالة، يفتقد المجتمع إلى الحيوية اللازمة لتحسين عموم أوضاعه، الأمر الذى يشير إلى وجود عُقم فى الشأن العام.
وعليه، حماية الشأن العام من التخريب تتطلب الخروج من حالة الرجوعية، الأمر الذى لا يمكن إنجازه دون علاج عُقم الشأن العام.
ذلك يعنى استحالة الاتجاه للولوج إلى مستقبليات أفضل، بغير التعرف على الأسباب المؤسسة لعُقم الشأن العام، والتى يجتهد الطرح الحالى فى تناول أهمها:
أولا- وضعية المجتمعات المقيدة
حديثا، قادت عديد من البحوث العلمية إلى تصنيف المجتمعات باعتبارها إما مقيدة أو مفتوحة. من أبرز الباحثين فى هذا الصدد يأتى الأمريكى دوجلاس نورث Douglass C. North (1920- 2015). فى الأنظمة المقيدة Limited access orders، والتى تصف حال بلدان الجنوب، يكون للعنف مكانة جوهرية.
فى هذه الأنظمة يتلاعب النظام السياسى بالمصالح الاقتصادية، بغرض استدرار "ريوع" (جمع ريع) يجرى استخدامها فى دفع مراكز القوى، من الجماعات والأفراد، إلى الإدراك بأن من مصلحتهم (المرتبطة بالريوع) الامتناع عن استخدام العنف. فى هذا الشأن تصنف الأنظمة المقيدة إلى أنواع ثلاث، هشة، وأساسية، وناضجة.
فى الأنظمة "المقيدة الهشة" تكون القدرة (الصريحة) على ممارسة العنف هى المحدد الرئيسى لتوزيع الريع والموارد. فى هذه الأنظمة تنتشر البلطجة، سواء من أفراد أو من كيانات. وفى المقابل، فى الأنظمة "المقيدة الأساسية" يأخذ العنف شكل التماهى لجزء من النخبة (خاصة من رجال الأعمال والمثقفين) فى التحالف الائتلافى مع الحكومة، حيث الحكومة تدعم كيانات هذه النخبة وامتيازاتها، بينما هى لا تدعم باقى كيانات النخبة ممن هم خارج الائتلاف.
أما عن الأنظمة "المقيدة الناضجة"، فتتميز بدعم الحكومة لجميع الكيانات، داخل أو خارج التحالف معها. العامل المشترك فى جميع الأنظمة المقيدة يتجسد فى أمرين؛ هيمنة قوى الأمن الشرعى (والمتمثلة فى الجيش والشرطة) على كافة الأمور والأوضاع، وتردى سيادة القانون.
من جانب آخر، يكمن المعيار الرئيسى الذى يفرق بين الأنظمة المقيدة والأنظمة المفتوحة Open access orders فى تميز الأخيرة بسيطرة "النظام السياسى" على أجهزة الاستخدام الشرعى للعنف (أى الجيش والشرطة).
وهكذا، فى الأنظمة المفتوحة تكون السيادة التامة للقانون، وللنظام السياسى، والذى تتحكم فيه أدوات الديمقراطية. فى هذه الأنظمة يكون الولوج إلى الأنشطة متاحا أمام الجميع، حيث تدار الأمور بمعياريات عامة، معلنة، وليست مُشَخْصَنة، ومن ثم، ينحسر عقم الشأن العام، والذى تتميز حركياته بالعدالة والشفافية والحيوية.
المسألة إذن أن مجتمعات الجنوب تحتاج إلى تحرر الشأن العام فيها من العُقم السارى- بالعنف- فى أنظمتها المغلقة. هذا التحرر لا يتم إلا باستهداف خضوع الجميع لسيادة القانون، وخضوع قوى العنف الشرعى (أى الجيش والشرطة) للنظام السياسى المُسيَّر بالتنافس الديمقراطى.
ثانيا- غياب الفعل التواصلى
من أهم الرؤى بخصوص الفاعاليات المجتمعية تجىء نظرية الفعل التواصلى Communicative action للألمانى جورجن هبرماس Jurgen Habermas (المولود عام 1929).
ترى هذه النظرية، والتى جرت الإشارة إليها فى تناول سابق (التفكير العلمى فى الشأن العام .. لماذا؟ - الشروق 16 أغسطس 2023) أن تواصل الناس (بالأسئلة والرؤى وفاعليات المواقف.. إلخ) فى عالمهم الحياتى، أى فى تفاعلاتهم مع بعضهم بشأن ما يهتمون به من إشكاليات ومشكلات، هو مايعرف بـ"الفعل التواصلى".
ووفقا لهابرماس، يكون الفعل التواصلى هو الأصل، والركيزة، فى العالم الحياتى للبشر، فى أى مجتمع، وفى أى مكان.
وفى مقابل العالم الحياتى، حسب هابرماس، يوجد العالم المنظومى، حيث الحياة تتشكل اجتماعيا من هذين العالمين، الحياتى والمنظومى.
وبينما الفعل التواصلى يمثل ركيزة العالم الحياتى، فإن منطق الأداء والتحكم هو ركيزة العالم المنظومى، والذى يتشكل أساسا من أنشطة الاقتصاد وأنشطة السياسة.
هنا ينشأ التساؤل: أيهما يقود الآخر؟، العالم الحياتى الذى يقوم على الفعل التواصلى، أَم العالم المنظومى، والذى يقوم على الإقتصاد والسياسة؟ الإجابة، عند هابرماس، أن العالم المنظومى هو جزء تابع للعالم الحياتى، وأن مهمته تكمن فى التخديم عليه.
ذلك بمعنى أن منظومات الاقتصاد والسياسة (ومعها- أيضا- منظومات العلم والأمن) تكون تابعة للفعل التواصلى، ولمتطلباته ومخرجاته.
من هنا يكون الفعل التواصلى، والذى هو آلية العالم الحياتى، هو الموجه لأنشطة الاقتصاد والسياسة. ذلك أن الأصل المنطقى، وفقا لهابرماس، هو أن أنظمة الاقتصاد والسياسة تتبع رؤى الناس، وليس العكس.
إذا كان هكذا معنى واردا فى المجتمعات المفتوحة، من خلال تحكم الناس فى السلطة بواسطة الممارسات الديمقراطية، مع الاعتبار للمسارات التاريخية والتطويرية لفكرة "العقد الاجتماعى"، فإن الوضع يكون معكوسا فى معظم بلدان الجنوب، حيث تهيمن أنظمة السياسة والاقتصاد على أوضاع المجتمع (بناسه وكياناته)، بينما لا يكون هناك وجود أصيل للفعل التواصلى، والذى يجرى منعه (أو تحجيمه).
من هذا المنظور، سيظل الشأن العام مُعوَّقا طالما استمر خضوع الفعل التواصلى لتحكمات السلطات الحاكمة.
وعليه، بغير التحول التصحيحى بأن تكون القيادة للعالم الحياتى، من خلال ممارسة الفعل التواصلى، ستستمر انتكاسات الشأن العام فى التصاعد.
مما تقدم، تحتاج مجتمعات الجنوب أن تكون أنشطة الاقتصاد والسياسة خادمة للعالم الحياتى، وليست مسيطرة عليه.
ثالثا– انحطاط الثقافة المجتمعية
تعتبر الثقافة المجتمعية بمثابة الإطار المرجعى الذى يمكن بواسطته التعرف على عموم أحوال أى مجتمع، وكذلك الاستشراف بخصوص مستقبلياته. لأهمية هذا الاعتبار نشأ الاهتمام بمعايير تقييم الثقافة المجتمعية. النظرية الأكثر شهرة وقبولا فى هذا الشأن ترجع إلى الهولندى جييرت هوفستد Geert Hofstede (1928-2020)، والذى قام بتطويرها على مدى حوالى أربعة عقود (بدءا من الستينات).
لهذه النظرية ستة أبعاد (أو معايير)، يمكن الإشارة إليها كالتالى:
- قدر الجماعية فى مقابل الفردية.
- مقياس تجنب اللايقينية.
- وجود دوائر (أو مسافات) نفوذ.
- قدر "الذكورية"، بمعنى التشدد فى التكليفات وربطها بالثواب والعقاب، فى مقابل قدر "الأنثوية"، والتى تعنى الرعاية.
- وجودية التوجه طويل المدى فى مقابل التوجه قصير المدى.
- غُلبة السماح (أو العطاء) أًم غُلبة التحجيم (أو المنع).
هذه المعايير تكشف- على سبيل المثال- عن مستوى التكاملية فى المجتمع، من خلال وضعية خصائص الجماعية، وحالة اليقينية، وتوازنية التخطيط،... إلخ. وهى أيضا تكشف عن سلبيات الممارسات التى يكون من شأنها زيادة الضغوطات الساقطة على الناس من المستويات الأعلى، مثل سطوة الذكورية، وسياسات التحجيم والمنع (وليس الرعاية والعطاء).
بمعنى آخر، تصنع نظرية هوفستد مرآة لحالة الشأن العام وممكناته فى مختلف المجتمعات.
من هذا المنظور، يميل الشأن العام إلى العُقم- مثلا- عندما تطغى الفردية، وتزداد اللايقينية ويتفاقم الخوف من المفاجآت، وعندما يبحث أصحاب الحاجة عن دعم أصحاب النفوذ. وفى المقابل، يتألق الشأن العام عندما يحصل الناس على حاجاتهم من منصة سيادة القانون، وعندما يحسون بيقينية الأوضاع، بخصوص حقوقهم وواجباتهم واحتياجاتهم، وعندما يتمتعون برعاية سياسات عامة طويلة المدى، وعندما لا يخافون من غدهم.
• • •
وهكذا، يمكن القول بأن علاج عقم الشأن العام يحتاج الخروج من حدود "المنظومة المقيدة" إلى براح "المنظومة المنفتحة"، الأمر الذى يكون من شأنه- تلقائيا- وجودية "الفعل التواصلى"، والتحول إلى "ثقافة مجتمعية" صحية.
أما عن التفعيل العملى لهكذا علاج فيحتاج إلى تعامل سياسى إدارى حصيف مع إشكالية الموازنة بين المركزية واللامركزية.