التقشف فى غير موضعه والكرم لمن لايستحق - وائل جمال - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:45 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التقشف فى غير موضعه والكرم لمن لايستحق

نشر فى : الأحد 2 أكتوبر 2011 - 9:10 ص | آخر تحديث : الأحد 2 أكتوبر 2011 - 9:10 ص

فى كل مناسبة تقتضى تدخل الدولة تقفز فى وجهنا قضية الدين العام وعجز الموازنة. فهى أول الحجج التى تقدم ضد رفع أجور العاملين بالدولة ومنهم الأطباء والمدرسون فى المستشفيات والمدارس العامة. كانت فزَّاعة تضخم الدين أيضا المبرر الذى تم تقديمه لتقزم الإنفاق الاستثمارى على الصحة والتعليم والبنية الأساسية فى موازنة العام المالى الحالى التى أعلت شأن محاصرة العجز على تحفيز السوق وخلق الوظائف لتنخفض نسبة العجز المتوقع فيها مقارنة بإجمالى الناتج المحلى مما هو فوق الـ11% إلى 8.55% بعد أن وصل إلى 134.3 مليار جنيه.

 

كما أعطت موازنة الثورة الأولى الأولوية لعجز الموازنة، الذى هو الفارق بين ايرادات الدولة وإنفاقها الذى يزيد عنها، تستمر حكومة شرف الثانية فى إيلاء وزن كبير له يصل إلى حد كونه المحدد الأساسى لسياستها الاقتصادية حتى الآن، وهو ما يكاد يصيبها بشلل.

 

 

 الوظائف أم الدين العام؟ جدل عالمى

 

الحقيقة أن ظاهرة تضخم الدين العام وعجز الموازنة ليست خاصة بمصر. فقد قفز المتوسط العالمى للعجز من 1.9% عام 2008 إلى 6.7% فى 2009 و5.5% فى 2010. ويتوقع صندوق النقد الدولى، فى تقرير المراقبة المالية ربع السنوى الصادر فى سبتمبر، أن يصل العجز فى العام الحالى إلى 10.3% فى اليابان،و 10.3% فى بريطانيا، وإلى 9.6% فى الولايات المتحدة (كلها نسب أعلى من نسبة العجز المصرى فى حجم اقتصادات أكبر بما لا يقاس). فى الوقت نفسه تشهد الولايات المتحدة، جدلا سياسيا محتدما بين منطقين: الأول يتبناه الرئيس باراك أوباما ويقوم على ضرورة أن تضخ الدولة استثمارات جديدة لتحفيز الاقتصاد، الذى يراوح فى كساد هائل منذ 2008، وخلق وظائف جديدة للفقراء، يتم تمويل جزء منها من ضرائب جديدة على الأغنياء. أما الثانى فهو منطق شبيه بما لدينا يتبناه الجمهوريون: لا ضرائب جديدة وبالتالى لا انفاق تحفيزى لأنه لا يمكن السماح للعجز والدين العامين بالتفاقم أكثر من ذلك.

 

ويسير رأى الجمهوريين على خطى تصور ساد العالم، ولم يستثن مصر، يقول بإن عجز الموازنة هو الشيطان الأكبر الذى يفسد الأسواق وحياة الناس، و«يحمل الأجيال القادمة مالا تحتمل». لكن ذلك فى الحقيقة أثبت أنه مجرد مدخل لتبرير انسحاب الدولة من الانفاق الاجتماعى ولخصخصة الأصول العامة لحساب قلة من الشركات الكبرى.

 

وينفضح الجمهوريون، وكل من هم على شاكلتهم، من الذين ينعقون بخراب الأجيال القادمة، بتجاهلهم الكامل للتوسع الهائل فى الانفاق الحكومى، فى عام 2008، والذى ترتب عليه قفزة فى نسب العجز العالمية. ببساطة لأن هذا الإنفاق كان يصب فى جيوب نفس الشركات والمؤسسات الكبرى، التى تنبنى لمصالحها سياسات تحرير الأسواق.

 

ومن المدهش، وفقا للاقتصادى البريطانى الكبير روبرت سكيدلسكى، أن أكثر المنفقين بالعجز فى التاريخ الأمريكى، كانوا من الرؤساء الجمهوريين المبشرين بمبدأ السوق الحرة، وتقليص الإنفاق الاجتماعى. هذا الجدل بين أنصار تقليص العجز وأنصار الوظائف والتنمية ليس فنيا على الإطلاق. إنه جدل سياسى بامتياز بين مصالح متعارضة ومتاريس اجتماعية متواجهة.

 

 

 جاء ليبقى

 

فى عام 1941، مثل رئيس مجلس الاحتياط الفدرالى الأمريكى (البنك المركزى) مارينر إيكلس أمام لجنة البنوك والعملات بالكونجرس وسئل عن الإنفاق الحكومى المتزايد وقتها فقال «لو لم يكن هناك ديون فى نظامنا المالى لما كانت هناك نقود». يعنى هذا ببساطة أن الديون جزء لا يتجزأ من حركية النظام الرأسمالى ومن تطوره، حتى وإن كان حكوميا. ومن هنا كان طبيعيا ألا تسدد حكومة الولايات المتحدة ديونها أبدا منذ قرنين من الزمان بل تستمر فى النمو والتضخم.

 

وبتخطى الدين الحكومى لأكبر وأقوى اقتصادات الرأسمالية 8 تريليون دولار، هناك استحالة لتسديد هذا الدين فى ظل النظام الرأسمالي: لو دفعت الحكومة الأمريكية 100 دولار فى الثانية لردت من أصل ديونها تريليونا واحدا خلال 317 سنة. وبفائدة لا تزيد عن 1% فإن رد الديون مستحيل.

 

الدين العام جاء إذا ليبقى فى ظل الرأسمالية. ويظل الجدل هو عند أى مستوى يجب الحفاظ عليه وفى خدمة من؟

 

على العكس من الجمهوريين وأخوتهم عندنا وفى سائر المعمورة، ممن يبررون الإنفاق بالعجز فقط لخدمة الأسواق ومن يحتكرونها، يقول جوزيف ستجليتز الاقتصادى الأمريكى الحائز على جائزة نوبل فى تخصصه  فى حوار صحفى العام الماضى، إنه «يجب أن نتذكر ما الذى أوقعنا فى الأصل فى هذه المشكلة: أن أسواق المال كانت قصيرة النظر بشكل هائل. هم يركزون على الأن وهنا وليس على  الأمد الطويل». المسألة، وفقا لستيجليتز، هى أنه إذا أنفقنا المال الحكومى على التعليم والتكنولوجيا والبنية الأساسية، فإن الدين الحكومى سيصبح أقل  فى المدى البعيد.

 

إن إنفاق المزيد من المال اليوم يحفز الاقتصاد ويوفر عوائد ضريبية جديدة. فبالاستثمار الحكومى، فى وقت يتقاعس فيه مستثمرو القطاع الخاص، برغم كل التدليل القانونى والسياسى عن ضخ أموال فى السوق، نحصل على نمو أعلى وتنمية أعمق.

 

 

 العجز وحكومة شرف

 

لم تتجاوز حكومة شرف ولا سياستها الاقتصادية أبدا الانحيازات الأساسية التى قامت عليها توجهات التحرير الاقتصادى خلال العقود الماضية، والتى كانت مسئولة عن تراكم الدين العام، الذى دفعنا ثمنه وقتها ويستخدم لندفع الثمن مرة ثانية الآن. مرة أخرى، وبعد الثورة على المنطق الاقتصادى لنظام المخلوع، يتم إلقاء اللوم على فقراء المصريين بل أغلبيتهم من المستفيدين من الخدمات العامة فى عجز الموازنة. يقول موقع وزارة المالية الحالى تحت عنوان سؤال وجواب حول عجز الموازنة: «كان مقدرا فيما سبق لهذه النسبة (8.55%) أن تصل إلى 7.9% فقط إلا أن الأحداث الأخيرة وبرامج الإنفاق الضخمة التى تبنتها الحكومة الحالية لتعويض المضارين من الأحداث ولتحقيق العدالة الاجتماعية قد قفزت بالنسبة».

 

يعنى هذا بالضبط استمرار نفس المنطق القديم فى التفكير فى دور الدولة فى الاقتصاد وفى انحيازاتها الاجتماعية. وينكشف هذا أكثر عندما نكتشف أنه فى ظل نفس المشكلة مازالت حكومة شرف تقدم رجلا وتؤخر أخرى فى توفير ما بين 7 إلى 12 مليار جنيه سنويا، يتم إنفاقها من جيوبنا مباشرة إلى جيوب محتكرى أسواق الأسمنت والأسمدة والسيراميك (وأغلبهم من قيادات الحزب المحظور)، برغم كل الحديث عن تشويه هذه السياسة لكفاءة الأسواق بل وتأييد بعض رجال الأعمال للخطوة. نفس الشيء يسرى على الحد الأقصى للأجر، الذى قيل لنا إنه سيعلن خلال شهر من تشكيل حكومة شرف الثانية ثم تأجيله إلى يناير. وهو إجراء يحل بعضا قليلا من اختلالات هائلة تضيع موارد الدولة.

 

الحكومة شبه مشلولة اقتصاديا، والأمر لا يتعلق فقط بضغوط الوفاء بالتزاماتها قصيرة الأجل (التأخر فى الإجراءات التى تعطى ثمارها بعد حين يجعل الضغوط تعيش معنا فى المستقبل). فعلى الرغم من استنكار كل أعضائها لفكرة أنها حكومة تسيير أعمال، لم تتخذ إجراء ذا شأن من الناحية الاقتصادية فى اتجاه ما يصبو إليه المصريون المنتفضون ولا فى اتجاه احتياجات التنمية الحقيقية. والسبب هو موقفها الاجتماعى والسياسى المنحاز كما يتجسد فى سياستها تجاه العجز والدين العام: التقشف فى غير موضعه عندما يخص الأجور والاستثمار فى الصحة والتعليم والنقل العام والصرف الصحى والخدمات، والكرم لمن لا يستحق بدعم الطاقة للمصانع كثيفة استهلاكها قليلة العمالة، الابقاء على دعم المصدرين، وعلى نظام ضريبى يدفع فيه الفقراء أكثر.  هذا هو لب القصة.

وائل جمال كاتب صحفي
التعليقات