محمد صلاح لاعب منتخب مصر ونادي ليفربول الإنجليزي لكرة القدم، هو في الغالب أشهر مصري الآن على وجه الأرض. ولا شك أن جزءً غير قليل من سحر نجاحه ينبع من اجتهاده البالغ ودأبه، اللذين نقلاه من قريته الصغيرة قليلة الإمكانات إلى عناوين الصحف العالمية. تقول الرواية، التي تفتن الجميع بالذات إن كانت مصحوبةً بتفاصيل راتبه الأسبوعي، إن العمل والإصرار يحققان الأحلام، وأن الجهد والموهبة يولدان الاستحقاق.
صلاح مثالٌ على ما يسمى بالحراك الاجتماعي. وهي ظاهرة تحدد احتمال أن يتسلق أحدنا السلم الاجتماعي للحياة لأعلى من حيث الدخل والمكانة، أو في حالات أخرى يسقط سلمة أو أكثر منه. وبينما يمثل محمد صلاح الاحتمال الأول، حيث استطاع التحرك على السلم الاجتماعي للدخل والمكانة فإن هذه الإمكانية تضيق يوماً بعد يوم، حتى لمن يملكون موهبته الاستثنائية في المستطيل الأخضر، ويصبح الناس يوماً بعد يوم، محددين بظروف أسرهم التي ولدوا فيها، بل ومعرضين أكثر فأكثر للهبوط على السلم الاجتماعي. لم تعد الجدارة والاستحقاق ولا العمل والتعلم، وسيلةً للحراك الاجتماعي وتحسين الظروف، كما يخبرنا لي إليوت ميجور وستيفن ميتشن في كتابهما الصادر الأسبوع الماضي عن الظاهرة في بريطانيا.
***
يبدأ الكتاب بمقارنة بين ديفيد بيكهام، لاعب الكرة الإنجليزي الشهير المعتزل، وبين ديفيد كاميرون، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق عن حزب المحافظين. الاثنان مثالٌ للنجاح الوظيفي. لكن الطريقين مختلفين. بيكهام ولد في شرق لندن لأب يعمل في صيانة وتركيب المطابخ وأم تعمل في تصفيف الشعر، أما ديفيد الآخر فولد في الريف الإنجليزي لأب يعمل في البورصة من نسل ملكي، وأم هي ابنة لبارونة. ديفيد الأول ترك المدرسة وهو في السادسة عشرة من عمره، بينما درس ديفيد الثاني في إيتون وأكسفورد. يعتبر الكاتبان الأول استثناء والثاني القاعدة.
بيكهام، مثله مثل صلاح، يكاد يكون كمن فاز بجائزة اليانصيب بين ملايين اشتروا تذاكره. "أطفال قليلون جداً ممن ولدوا لأهل فقراء صاروا يتسلقون السلم إلى ذرى النجومية. بل إن الصادم هو أن أعداداً كبيرة تترك المدرسة بدون الحد الأدنى من مهارات الكتابة والحساب الأساسية، التي يحتاجونها في الحياة وينتهون في الوظائف شحيحة الأجر ذاتها كآبائهم وأمهاتهم"، يقول ميجور وميتشن في وصف حال الحراك الاجتماعي من أسفل في بريطانيا.
يرصد كل من ميجور، الذي يرأس وقفية تعمل على الدفع بالحراك الاجتماعي، وميتشن، الاقتصادي البريطاني الذي يدرّس في كلية لندن للاقتصاد الشهيرة ويتخصص في اقتصاديات التعليم واللامساواة في سوق العمل، التراجع الهائل في قدرة الفقراء، عبر اجتهادهم وعملهم وحتى تعليمهم وموهبتهم، على تحسين وضعياتهم الاجتماعية في بريطانيا عبر الأجيال. في 1958، كان ربع الأطفال من أفقر عشرين في المائة من حيث الدخل يظلون في نفس الموقع عند البلوغ. في 1970، ارتفعت النسبة إلى 35 في المائة. اليوم، أقل من عشرة في المائة من فقراء بريطانيا استطاعوا الصعود للعشرين في المائة السلم الاجتماعي بما يجعله الوضع الأسوأ منذ الخمسينيات، بحسب مؤشر يُطلق عليه: "من الأسمال للثروات". ويحذر الكاتبان من أن تنحدر بريطانيا إلى مصير الولايات المتحدة، التي تحولت بفعل اللامساواة في الثروة وضيق الحراك الاجتماعي إلى معكوس صورة "الحلم الأمريكي" و"الاجتهاد يصنع المعجزات في أرض الفرص"، حيث تنحدر النسبة إلى 7.5 في المائة فقط مقارنة بما يزيد عن 13 في المائة في كندا.
ليس هذا فقط بل إن الطبقة الغنية، من نوعية ديفيد كاميرون، صارت تعيد إنتاج نفسها في نفس الوضعية بفعل تفاقم اللامساواة في الثروة والدخل، حيث صارت مؤسسات تعليمية خاصة كإيتون وأكسفورد، وهي لا يتوافد عليها الفقراء، مصنعاً لإعادة إنتاج النخب في السياسة وغيرها من أبناء الأثرياء. وصار أكثر من نصف دخل هذه الشريحة يتحدد بما ورثوه من عائلاتهم.
في عالم الرأسمالية العالمية في القرن الحادي والعشرين، بريطانيا والولايات المتحدة لا تمثلان وضعاً استثنائياً. فما تغلب عليه محمد صلاح في مصر، يعوق الملايين فيها وفي غيرها. يقول تقرير للبنك الدولي عن الحراك الاقتصادي في الدول النامية، صدر في مايو الماضي، إن أجيالاً من الفقراء صاروا محصورين في دائرة الفقر، وغير قادرين على تحسين ظروف معيشتهم بسبب عدم المساواة في الفرص. ويتحدث التقرير بالذات عن مصر ضمن ست دول أخرى، راصداً تراجع الحراك الاجتماعي منذ الثمانينيات بعد أن كان قد شهد تحسناً متواصلاً من الأربعينيات. بل إن التقرير يشير إلى أن التحسن في التعليم لم يعد مرتبطاً بأي تحسن في مستوى الدخل اجتماعياً، ويشهد على ذلك بالطبع ارتفاع معدلات البطالة بين المتعلمين الجامعيين بالذات. العناصر الهيكلية إذن تجعل من محمد صلاح استثناءاً، وتتكسر نصائح التنمية البشرية المستمدة من تجربته على صخور تقسيم الثروة والقوة في مجتمع هو الثالث عالميا في 2017 من حيث التفاوت في الثروة، بحسب تصنيف بنك كريديه سويس.
***
يحذر الكاتبان من الآثار الاجتماعية والسياسية الناتجة عن صدأ الحراك الاجتماعي ويشيران إلى جهود النخبة العليا المحمومة للحفاظ عليه وتكريسه بكافة الطرق، وأولها الوقوف في وجه أية سياسات يمكنها تحسين الوضع، وهو وضع يمكنها نفوذها وتغلغلها في السلطة السياسية والاقتصادية منه. وهما إذ يشيران إلى ماكينة إعادة إنتاج الفقر والغنى بفعل السياسات العامة واللامساواة وتراجع الأجور الحقيقية، يحذران من التعويل المبالغ فيه على قدرة التعليم على تجاوز الوضع واستعادة قيمة الجدارة والاستحقاق. يشترط الكاتبان سياسات تقلل اللامساواة في الدخل والثروة، ومنظوراً اقتصاديا يعمل للكافة وليس لخدمة مصالح الأقلية الثرية، ونظاماً سياسياً يستعيد السلطة من النخب التي لا تمثل سوى نفسها. "فقادة قافلة الحياة يجب أن يكونوا قد طرقوا مسارات مختلفة".
لي إليوت ميجور وستيفن ميتشن، الحراك الاجتماعي وأعداؤه، لندن، دار بنجوين، سلسلة بليكان، سبتمبر 2018، 272 صفحة
Lee Elliot Major and Stephen Machin, Social Mobility And Its Enemies, London: Penguin: September 2018, 272 Pages, £8.99
كاتب مصري وباحث في الشؤون الاقتصادية.
الاقتباس
بيكهام، مثله مثل صلاح، يكاد يكون كمن فاز بجائزة اليانصيب بين ملايين اشتروا تذاكره. أطفال قليلون جداً ممن ولدوا لأهل فقراء صاروا يتسلقون السلم.