كأننا بالسياسى والمفكر الأمريكى الأشهر هنرى كيسنجر، وقد أبى أن يحول الحول على تحذيره فى نوفمبرالماضى، من أن يفضى تصاعد الصراع بين بكين وواشنطن، بغيراحتواء، إلى الزج بهما فى غياهب حرب باردة جديدة، حتى يعاود التحذير مجددا مطلع الشهر المنقضى، من أن يسفرإخفاق القيادات الصينية والأمريكية فى التوافق بشأن وضع أسقف، لا يمكن تجاوزها، للتهديدات المتبادلة والمنافسة المحتدمة بينهما، فى ظل استبعادهما المضلل لاحتمال اشتعال النار من مستصغر الشرر ببعض بؤر التوتر كتايوان أو بحر الصين الجنوبى، عن تدحرج العالم إلى أتون حرب كونية ثالثة تفوق فى ضراوتها سابقتيها اللتين أودتا بحياة أكثر من 90 مليون ضحية.
بأزمة ثقة لافتة، تقطراتهامات بكين لواشنطن باستعدائها وتفزيع العالم من حقها فى الازدهار.فعلى رغم البون الشاسع نسبيا بينهما فى عناصر القوة الشاملة لصالح الأخيرة، يتخوف الأمريكيون من أن تتمكن بكين، خلال مدى زمنى محدود، من تضييق الفجوة مع واشنطن واللحاق بها، بل وإزاحتها من قمة النظام الدولى. فاقتصاديا، ورغم أنه يحل ثانيا بعد نظيره الأمريكى، يتملك واشنطن قلق عارم من تسارع وتيرة نمو الاقتصاد الصينى، بعدما قفز ناتجه القومى من 179 مليار دولار عام 1980 إلى 13600 مليار، بزيادة 75 ضعفا عام 2018، كما تفاقم الفائض التجارى لصالح الصين من 345 مليار دولار عام 2015 إلى 420 مليار حاليا. كذلك، أضحت الصين الشريك التجارى الأول لـ140 بلدا حول العالم، فيما كشفت دراسة حديثة لمعهد «بيرتلسمان» الألمانى، تخطى حجم الاستثمارات التى ضختها دول غربية خلال الفترة من عام 2013 حتى عام 2017 فى مبادرة الحزام والطريق، التى تضم 126 دولة، 290 مليار دولار، مقابل 285 مليار خصصتها الصين. ويؤكد خبراء أن الأمور إذا مضت بهذه الوتيرة، فسيلحق الاقتصاد الصينى بنظيره الأمريكى قريبا ان لم يتخطاه.
وعسكريا، لم يكن مجىء الصين فى المرتبة الثالثة من حيث القوة العسكرية بعد الولايات المتحدة وروسيا، ليبدد المخاوف الأمريكية من شبح الصعود الصينى. فإلى جانب تحديها للمجتمع الدولى ببسطها سيطرتها على بحر الصين الجنوبى، ورفضها الانخراط فى اتفاقات ضبط التسلح الاستراتيجى رغم امتلاكها 280 رأسا نوويا، ورفعها إنفاقها العسكرى من 160 مليار دولار سنويا إلى 320، تتنامى بواعث القلق الغربى من شروع الصين فى عسكرة مبادرة الحزام والطريق، التى انطلقت عام 2013 وتضم قرابة 130 دولة، كما عشرات الموانئ البحرية حول العالم، وفق ما حذر منه تقرير معهد جمعية آسيا للدراسات السياسية، ودراسة مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية. فى عام 2017، دشنت بكين أولى قواعدها العسكرية البحرية، فى جيبوتى بمدخل خليج عدن وباب المندب وقناة السويس، فى الوقت الذى تتعاظم مخاوف الهند من إقدام الصين على تطويقها بسلسلة من القواعد العسكرية بامتداد المحيط الهندى فى باكستان وبنجلاديش وميانمار وسريلانكا والمالديف.
وبعدما انتزعت بكين عضوية «مجلس القطب الشمالى» بصفة مراقب، حذرت دوائر استخباراتية غربية من عسكرتها لأنشطتها العلمية المدنية هناك، خصوصا بعدما دشنت أنظمة لأقمار اصطناعية قادرة على تعقب الصواريخ واعتراض الاتصالات العسكرية، كما قامت بنشر غواصات، وبناء كاسحات جليد عملاقة تعمل بالطاقة النووية. وبينما تبرر بكين طفرتها العسكرية بحاجتها الملحة لتأمين مصالحها الاقتصادية حول العالم، وتجارتها التى يمر أكثر من 85% منها بمناطق نفوذ أمريكية، لم يفوت الرئيس الصينى مناسبة وطنية إلا وناشد جيش بلاده التأهب للحرب من خلال رفع مستوى التسليح والاستعداد القتالى وتطوير نظريات القتال وأنماط التدريب وتشكيلات قوات المهام، محذرا خصومه من الاستخفاف بقوة الصين.
وردا على مساعى بكين لانتزاع قيادة العالم تكنولوجيا فى بضع سنين عبر تفعيل مبادرة «معايير الصين 2035»، هرعت واشنطن لتحرى السبل الكفيلة بإجهاض تلك المساعى، واصفة إياها بالمنافس الخبيث الذى يسعى لاحتكار كل صناعة مهمة فى القرن الحادى والعشرين ولا يتورع عن سرقة أبحاث لقاح «كوفيدــ19» من الغرب.الأمر الذى اضطر كيسنجر للتحذير من مغبة أن يؤدى اشتعال سباق التكنولوجيا وصناعات المستقبل وتقنيات الذكاء الاصطناعى، إلى تحويل التنافس الصينى ــ الأمريكى؛ إلى صراع مدمر وصفرى النتيجة، مذكرا صناع القرار الأمريكى بأنه لم يعد بالإمكان الاحتفاظ بتفوق كونى سرمدى وأحادى الجانب على الصعيدين الاقتصادى والتكنولوجى.
ودبلوماسيا، أنفقت الصين طيلة العقد الماضى عشرات المليارات من الدولارات لتعزيز نفوذها داخل المنظمات والهيئات والكيانات الدولية، متوسلة استمالتها وتحريرها من ربقة الهيمنة الأمريكية، توطئة لتطويع القيم والممارسات التنظيمية التى تحكمها لتتناغم والرؤية الصينية. فبدلا من الولايات المتحدة، رسخت بكين أقدامها كأهم ممول بالبنك الدولى، وعظمت دورها فى أنشطته الاستشارية غير الإقراضية، كما ترأست أربعة من أصل 15 وكالة متخصصة فى الأمم المتحدة. وبينما سلطت جائحة كورونا الضوء على نفوذ الصين بمنظمة الصحة العالمية، تفاقم حضورها بالاتحاد الدولى للتكنولوجيا والمنظمات المسئولة عن وضع المعايير التكنولوجية المستقبلية. وتتجلى خطورة تغلغل الصين بالمنظمات الدولية حتى أضحت ثالث أكبر قوة تصويتية بها، فى تزامنه مع جنوح إدارة ترامب للانسحاب من بعضها كاليونسكو ومجلس حقوق الإنسان، وتقليص تمويلها لبعض آخر كمنظمة الصحة العالمية والصندوق والبنك الدوليين، فضلا عن التنصل من أطر العمل الدولى متعددة الأطراف كاتفاق باريس للمناخ ومعاهدات ضبط التسلح غير التقليدى، والاتفاقية الدولية للهجرة. الأمر الذى دفع مراقبين صينيين لتمنى فوز ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية حتى يواصل هذا التوجه؛ بما يقلص الحضور الأمريكى عالميا، ويعزز النفوذ الصينى المتنامى بمؤسسات النظام الدولى.
صفوة الكلم، ليس مستبعدا أن يؤدى استعداء دوائر أمريكية للصين باعتبارها منافسا تارة، ثم خصما أو عدوا أو تهديد القرن تارة أخرى، مع استدعاء تراهات ومفردات الحرب الباردة كالصراع والصدام، بموازاة استنفار العالم لتدشين تحالف دولى جديد مناهض لبكين، أو الترويج لحرب باردة، أو أخرى عالمية ثالثة بينها وبين الغرب، إلى انزلاق الطرفين، ومن ورائهما الإنسانية قاطبة، إلى ما لا يتمناه الجميع ويحذر منه كيسنجر وغيره، بما يتماشى والسردية القديمة الجديدة المتمثلة فى «النبوءة التى تحقق نفسها» selfــfulfilling prophecy، والتى انبرى عالم الاجتماع الأمريكى روبرت ك. ميرتون فى التنظير لها، منتصف القرن الماضى، مستعينا بـ«نظرية توماس»، التى تذهب إلى أن الناس إذا عرّفوا المواقف على أنها حقيقية تصير حقيقية فى عواقبها، حيث ابتكر ميرتون «نظرية التفاعل الرمزية»، التى أصل لها فى كتابه «النظرية الاجتماعية والبنية الاجتماعية»، وتنص على أن نبوءات الذات تتحقق كتعريفات خاطئة للحالات، حيث يعيد الفهم الخاطئ خلق الوضع بطريقة تجعل التعريف الزائف الأصلى صحيحا. وبعدما تم استخدامها فى تفسير الظواهر الاجتماعية، أكدت نظرية ميرتون أن المعتقدات تعمل كقوى اجتماعية.
وكنا قد حذرنا قبل أشهرمضت فى مقال بهذا المنبر المرموق، بعنوان «هواجس الحرب الباردة الصينية الأمريكية»، من أن يتمخض تخوف قطب عالمى وحيد ومهيمن كالولايات المتحدة، من الصعود المريب لقوة منافسة كالصين، مع انسداد أقنية الحوار والتعاون، عن تأجيج الصدام بينهما والإيقاع بهما فى غيابات «فخ ثوسيديدس»، الذى يفسر إقدام القوة العظمى المهيمنة على مواجهة القوة الناشئة لعرقلة صعودها ومنعها من مزاحمتها قيادة العالم مثلما جرى بين أثينا واسبرطة فى أزمان غابرة.
وللحيلولة دون وقوع واشنطن وبكين فى المحظور، ينصح كيسنجر، مهندس إعادة تدشين العلاقات الصينية ــ الأمريكية عام 1971، أصحاب القرار الأمريكيين بالتخلى عن اعتقادهم الراسخ فى حتمية بقاء القوى الصاعدة كروسيا والصين خلف الولايات المتحدة بمراحل على مختلف الصعد، توخيا لتأبيد الهيمنة الأمريكية المنفردة على عالم ما بعد الحرب الباردة، كون هذا الاعتقاد قد يبرر المساعى الأمريكية المحمومة لإجهاض الصعود الصينى المتسارع، استنادا إلى نظرية «الاستقرار بالهيمنة»، التى أصل لها «تشارلز بى. كينديلبيرغر» عام 1973 بمؤلفه المعنون «العالم فى كساد: 1929ــ1939»، ومن ثم استحضار الصدام.وطالب الدبلوماسى المخضرم واشنطن ببناء نظام اقتصادى عالمى لا يتيح لأى بلد آخرابتزازها، دون أن يستدرجها لتقويض صعود القوى المنافسة، خصوصا وأن الصين لا تتعامل مع الولايات المتحدة بنفس المنطق العدائى، ليس بجريرة عدم جهوزيتها للصدام فى المرحلة الحالية، أو حتى تأكيد قياداتها عدم الرغبة فيه فحسب، ولكن لوجود أسس راسخة يمكن البناء عليها لتلافيه.
فتاريخيا، وباستثناء المواجهة الوحيدة بينهما إبان الحرب الكورية (1950ــ1953)، كان المنحى التفاهمى هو الغالب على مسيرة العلاقات الصينية الأمريكية. فإبان الحرب العالمية الثانية وحتى بداية التحول الشيوعى بقيادة «ماو تسى تونج» أواسط القرن الماضى، ظلت الصين حليفا للولايات المتحدة، التى ما برحت ترى فى التقارب مع بكين، ولو مرحليا، ضرورة استراتيجية ملحة، باعتبارها مركز ثقل موازن للاتحاد السوفيتى وقتذاك، ما دفع بالرئيس نيكسون لزيارتهاعام 1972. وبانطلاق إصلاحات «دنج شياو بينج» الاقتصادية عام 1978 وحتى مطلع تسعينيات القرن الماضى، طفقت غالبية الأمريكيين تعتبر الصين شريكا تجاريا مهما ومعينا جيوسياسيا للجم طموحات موسكو الاستراتيجية، وهو ما تمظهرفى اتباع أوباما منذ عام 2008 سياسة «المشاركة الاستراتيجية» حيالها، والتى استمرت حتى العام 2017.
وفى كتابه المعنون «جيوبوليتيك كوفيد 19»، الذى حاول من خلاله رصد التبعات الجيوسياسية لجائحة كورونا، أكد الباحث الفرنسى باسكال بونيفاس، أن لحاق الصين بالولايات المتحدة بات أمرا لا مفر منه، مدعيا أن الجائحة أظهرت أن واشنطن بسبيلها لفقدان قيادة العالم لصالح بكين. وفى حين كانت جميع المداولات والترتيبات المتعلقة بإدارة النظام الدولى منذ وضعت الحرب الكونية الأولى أوزارها تتم بين موسكو والغرب، لن يكون بمقدور واشنطن وضع أسس ومعايير جديدة لنظام عالمى مرتقب، بغير إشراك الصين.وهو الأمر الذى لاحت بوادره مؤخرا فى إصرار ترامب على إدماجها فى ترتيبات ضبط التسلح الاستراتيجى بكل ما تتضمنه من عسكرة الفضاء وأسلحة الدمار الشامل وأنظمة إيصالها، فى الوقت الذى باتت بكين رقما صعبا فى القضايا التى غدت تتصدر أولويات المجتمع الدولى كالصحة والبيئة والمناخ وأمن الطاقة العالمى. ويختتم بونيفاس أطروحته بتحذير الأمريكيين من الانجرار لصدام مروع مع الصين، قد لا يقوض صعودها الحتمى بقدر ما سيلقى بظلاله المأساوية على البشرية جمعاء.