حملنى افتقاد المسلسلات التاريخية، بالتزامن مع تواضع المستوى الفنى، وتفشى "دراما البلطجة والعشوائيات" طيلة العقود الثلاثة المنقضية؛ على الزهد فى متابعة الدراما التليفزيونية الرمضانية. فلم يكن يستهوينى منها سوى بعض الأعمال الاستثنائية ذات الطابع الوطنى، على شاكلة «الاختيار»، أو «هجمة مرتدة». وما أن قررت «إم بى سى»، إذاعة مسلسلها التاريخى «معاوية»، فى رمضان الحالى، بعد إرجاء دام حولين كاملين، حتى عاودنى الحنين إلى الشاشة الصغيرة.
بغض النظر عن إشكالية تعثر إذاعته، استنادا إلى فتاوى حظر إنتاج أعمال درامية تتضمن تجسيدًا للأنبياء، الرسل، أو صحابتهم؛ أثار المسلسل جدلا واسعا، لأسباب عدة: أبرزها: شح الدراما التاريخية والدينية خلال السنوات الأخيرة. إضافة إلى حساسية الحقبة التاريخية المفصلية التى يتناولها. ناهينا عن الجدل، الذى يحيط بشخصية، معاوية بن أبى سفيان، ووالديه. حيث يعتبره رهط من المؤرخين صحابيًا جليلًا، من كتبة الوحى، زعيمًا سياسيًا بارعًا وقائدًا عسكريًا فذًا، أسهم فى توحيد الأمة، وإنقاذها من فتن كقطع الليل المظلم، توطئة لترسيخ دعائم إمبراطورية إسلامية عصرية مترامية الأطراف. فى المقابل، يراه نفر آخر، مفجرًا لأحداث دامية، مهدت لاقتتال المسلمين، الخروج على ولى الأمر، وتحويل الخلافة إلى ملك عضوض، عبر إرساء مبدأ توريث الحكم فى نسل بنى أمية، مع تزويده بمظاهر الترف والأبهة، حتى أطلق عليه البعض «كسرى العرب».
تواكب عرض المسلسل مع ولوج الاستقطاب السنى الشيعى منعطفًا تاريخيًا؛ على وقع سقوط نظام بشار الأسد، وانكسار المحور الإيرانى فى المنطقة. فلقد أحجمت الشركة المنتجة عن عرضه فى رمضان قبل الماضى، جراء اعتراضات مراجع شيعية عراقية، استشعرت فيه تأجيجًا للسجالات الطائفية، وتهديدًا للسلم الأهلى والنسيج المجتمعى. إذ ارتأى زعيم التيار الصدرى، معاوية، رأس الفتنة الطائفية، وأول من استن سب الصحابة والاجتراء على قتلهم. وأول من خرج على إمام زمانه، وشق صفوف الوحدة الإسلامية. وفى مشهد يعكس طغيان الطائفية وغياب الحوار الفكرى البناء، أعلنت فضائية «الشعائر» العراقية، شيعية الهوى، إنتاج فيلم بعنوان: «شجاعة أبولؤلؤة»، يتناول حياة، أبو لؤلؤة المجوسى، قاتل الخليفة، عمر بن الخطاب، عام 23هـ، والذى تعتبره مصادر شيعية منتقما لمظالم طالت آل البيت. الأمر، الذى حض هيئة الإعلام والاتصالات العراقية على المطالبة بوقف عرض المسلسل، ومنع إنتاج الفيلم، تجنبًا لإذكاء الفتنة الطائفية وإثارة الإحن الدينية.
***
بينما تم تسطير هذا المقال قبل توغل المسلسل فى وقائع الفتنة الكبرى، استوقفنى تعرضه لجدلية الأسبقية، أو توقيت إسلام، معاوية. ففى تناولها سيرته، لطالما سلطت الأدبيات الشيعية، التى اعتمد بعضها على تفسيرات مغرضة، لروايات عباسية سنية، على فكرة «أسبقية الإسلام»، المبنية على الآية المائة من سورة التوبة: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ». حيث تستند تلك الأدبيات على روايات للأئمة: مالك، أبوحنيفة وأحمد، فى القول إن، معاوية، من «مسلمة الفتح»، أو«الطلقاء»، الذين عفا عنهم الرسول، صلى الله عليه وسلم، بعد فتح مكة فى العام الثامن للهجرة. وهو الأمر الذى ظل يؤرق، معاوية، حتى أنه أقر فى خطبته الشهيرة بالمدينة المنورة، عام 41 هجرية، المعروف بعام الجماعة، بأن ثمة من هو خير منه، إيمانًا وأسبقية؛ لكنه يرى نفسه الأكثر نكاية فى العدو، الأنعم ولاية والأحسن خلقًا. وهى صفات تؤهله، حسب رأيه، لتولى الخلافة.
كأننا بالمسلسل وقد تبنى رواية تذهب إلى أن، معاوية، كان ميالًا للإسلام مطلع شبابه، حتى إنه أسلم قبل فتح مكة. حيث خصص لذلك مشاهد عدة، كان أبرزها: مجادلته والده، أبى سفيان، مرارًا فى صدق نبوة، محمد، صلى الله عليه وسلم؛ مرورًا بإظهاره وهو يتوضأ، ويصلى قبيل الفتح. وصولًا إلى ندم أمه، هند، وقت احتضارها عقب معركة اليرموك، على نهرها إياه، حينما أسرَ لها بإسلامه قبل الفتح. رغم علمها بأنه كان على الحق، وقتذاك، نكاية منها فى الإسلام والمسلمين، بجريرة مقتل أبيها وأخيها وبعض أقربائها فى غزوة بدر.
تفنن المسلسل فى إبراز طموح، معاوية، وتطلعه إلى بلوغ المجد وتحقيق عز العرب من خلال التفوق على الفرس والروم، وسيادة الدنيا؛ استنادًا إلى ما يمتلكونه من مقومات، كمثل: الفروسية، الشجاعة، والعقيدة السمحاء. وأظهر، معاوية، صاحب رؤية استراتيجية ثاقبة. حيث أصر على إقامة أول أسطول بحرى حربى للمسلمين، باعتباره ضرورة استراتيجية ملحة لتنويع أذرع القدرة العسكرية للدولة الإسلامية، بما يساعد على تأمين ربوعها بعد اتساعها وإطلالها على بحار شتى. وبمقاربة جيوسياسية عبقرية، أبلى بلاء حسنًا فى توسيع الفتوحات لتطال أقاليم كانت تشكل مراحل مهمة من طريق الحرير البرى بين الصين وبيزنطة. الأمر الذى جعل من الدولة العربية الإسلامية قطبًا مؤثرًا فى النظام الدولى، حينئذ.
***
لاح البون شاسعًا بين تجربة الثنائى المصرى خالد صلاح وأحمد مدحت، إذا ما جاز لنا اعتبارهما ثنائيًا فنيًا محترفًا؛ وإبداعات ثنائيات أخرى شهيرة على شاكلة: السوريين محمود عبدالكريم ونجدت أنزور، اللذين أبدعا، فى العام 2004 ، مسلسل «فارس بنى مروان»، عن سيرة الفارس والأديب الأموى، مسلمة بن عبدالملك بن مروان بن الحكم. أو السوريين، حاتم على، ووليد سيف، اللذين أبدعا مسلسل «عمر»، عام 2012، ويستعرض سيرة، ثانى الخلفاء الراشدين، عمر بن الخطاب. ففى كلا العملين الدراميين التاريخيين الخالدين، ازدان التترات، إلى جانب المراجعين اللغويين، خبراء الأدب واللسانيات، ومحترفى تصميم المعارك، الملابس وغيرهم؛ بأسماء مستشارين دراميين وتاريخيين أعلام. وهو ما لم يتراءى للمتابع فى مسلسل «معاوية». فبينما أغفل الاستعانة بخبرات مصرية وعربية متخصصة فى دراسة تلك الحقبة الحيوية من تاريخ الدولة الإسلامية؛ اكتفى مخرجه بتصريحات صحفية تؤكد مراجعة المسلسل قبل، أثناء وبعد التصوير، من لدن هيئة علماء. فيما أكد مؤلفه، الاعتماد على مصادر تعنى بالأنساب، السير الشخصية، والتجليات السوسيولوجية للحقبة الزمنية التى يتناولها المسلسل. إضافة إلى موسوعات تاريخية شهيرة.
يشعر المتابع للمسلسل بعدم تناسب مستوى السيناريو ولغة الحوار مع خصوصية الحقبة التى يتناولها، والتى غلب عليها الثراء الثقافى والزخم المعرفى. ورغم أن «الشعر ديوان العرب»، أغفل صناعه إبراز أهمية الشعر فى حياة، معاوية. وهو السياسى، الفصيح والخطيب القائل: «اجعلوا الشعر أكبر همّكم، وأكثر دأبكم»، كما ذكر ابن رشيق فى كتابه «العمدة»؛ وأشار، المبرد، فى سفره المعنون: «الكامل». فيما أورد، الجاحظ، فى كتابه «البيان والتبيين»: «إن معاوية كان من الفصحاء الخطباء، الذين يشارُ إليهم بالبنان». وكانت ثالث زوجاته، ميسون الكلبية، شاعرة، وكذلك ابنه منها ووريثه فى الخلافة، يزيد. ومثلما زخر العصر الأموى بفطاحل الشعراء، من أمثال: كعب بن جعيل، الأخطل، جرير، الفرزدق، الراعى، الأحوص، وأبوالنجم العجلى؛ كان جل خلفاء ذلك العصر فصحاء وبلغاء يتذوقون الشعر ويحبون الأدب.
حتى حلقته الثامنة، يبدو مسلسل «معاوية» مقاربة درامية تاريخية، مثيرة؛ غير منبتة الصلة بالمساعى المعرفية الحثيثة، الرامية إلى رد الاعتبار التاريخى للدولة الأموية. بعد قرون من التشويه المتعمد لصورتها، على وقع الصراع السياسى بين الأمويين والعباسيين، مرورًا بالتناحر الطائفى المزمن بين السنة والشيعة. وصولًا إلى التنافس الاستراتيجى بين العرب من جهة، وكل من إيران ووكلائها فى الجبهة المقابلة.
لعلها بداية مبشرة لكاتب ومخرج طموحين. ففى حين يفتقد الأول، أية خبرات سابقة فى الكتابة الأدبية أو الإبداع الدرامى؛ يستفتح الثانى، الذى تبرأ من مثالب فنية شابت الحلقة الأولى، التى لم يشارك فيها، أولى رؤياه الإخراجية بعالم الدراما التاريخية. شأنه فى ذلك شأن المخرج الأصلى، طارق العريان، الذى كان بصدد أولى تجاربه التليفزيونية التاريخية، قبل انسحابه منها، إثر خلاف مع الجهة المنتجة.
أخشى أن تبدو المعالجة الدرامية غير متناسبة؛ سواءً مع ثقل الشخصيات وعظم الأحداث، أو الإنتاج الضخم، الذى تغنى به بيانها الترويجى. فلكم كان حريًا بميزانية تخطت المائة مليون دولار، ومسيرة تصويرية تجاوزت المائة يوم، طافت بلدان عدة، واستجلبت فنانين من مشارب شتى، مستعينة بأحدث التقنيات، ومسخرة أفضل الإمكانات؛ إثراء المكتبة التليفزيونية العربية بعمل درامى تاريخى؛ أدق موثوقية، أعلى مهنية، أكثر عمقًا وأبقى أثرًا.