بموازاة تجنب الحديث عن حل الدولتين؛ يأبى ترامب إلا تبنى المخطط الإسرائيلى، القديم الجديد، لتهجير الفلسطينيين، قسرًا أو طوعًا، خارج الضفة وغزة. الأمر الذى ينذر بنكبة جديدة تخلف ما يفوق مليون ونصف المليون لاجئ فلسطينى، أى ضعف ضحايا النكبة الأولى عام 1948.
عقب سريان وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس يوم 19 يناير المنقضى، طرح ترامب خطة لـ«تطهير» غزة، عبر نقل قاطنيها إلى بلدان أكثر أمانا مثل مصر والأردن؛ بعد أن تسبب العدوان الإسرائيلى فى مأساة إنسانية إثر تحول القطاع إلى أطلال. ويثير استخدام مصطلح «التطهير»، استياء هائلًا، كونه يعبر عن السياسة العنصرية، التى اتبعتها الولايات المتحدة حيال المهاجرين غير النظاميين من دول أمريكا اللاتينية. إذ ينطوى على نوع من التعالى على الغرباء، باعتبارهم مصدر تلوث فى المجتمعات، التى تحوى أغلبية عرقية أو لونية، مقابل أقلية من لون أو عرق مغاير. وربما استوحاها ترامب، من أسطورة «يوم التطهير» الهوليوودية، التى أبدعها المؤلف والمخرج، جيمس دى موناكو؛ وتتمحور حول تخصيص 12 ساعة كل عام، تمارس خلالها الأغلبية البيضاء شتى صور العنف والإبادة، ضد الأقليات الملونة القادمة من إفريقيا، الشرق الأوسط والمكسيك. فى غيبة من الأمن، القانون، والخدمات الطبية. وكأن ترامب يعتبر بقاء الفلسطينيين، أصحاب الحق التاريخى والأبدى فى أرضهم، دخلاء على تلك الأرض، بما يبرر للإسرائيليين المحتلين لها، إبادتهم أو طردهم منها، وسلبهم إياها.
اللافت أن ترامب، يسعى لتهجير الفلسطينيين من أرضهم، بينما يتفانى فى إبعاد المهاجرين من بلاده. فبإعطائه الضوء الأخضر لعملية ترحيل المهاجرين غير النظاميين، أشعل أزمة بين الولايات المتحدة وعدد من دول أمريكا الجنوبية، كان من أبرزها كولومبيا، والبرازيل.
يمارس ترامب ضغوطا منسقة على العرب. فبالتزامن مع تأكيد نتنياهو استعداد جيش الاحتلال لمعاودة القتال ضد حماس حالة تعطيلها إكمال الصفقة أو معاودة بناء قدراتها العسكرية، يحملها المبعوث الأمريكى مسئولية تهديد صمود الاتفاق. وفى مسعى منه لاستخدام التعريفات الجمركية والعقوبات الاقتصادية، سلاحا لتحقيق أهداف سياسته الخارجية، يساوم ترامب العرب على إعادة إعمار غزة عبر رهن تنفيذه بقبول مقترحه لتهجير الفلسطينيين. حيث أكد أن إدارته لن تمضى بعيدًا فى تسهيل إغاثة غزة، إيواء مشرديها، وإعادة بناء ما دمرته آلة الحرب الإسرائيلية المدججة بالسلاح الأمريكى، قبل تهجير الغزيين. كذلك جاء موقف ترامب المراوغ بعد أيام فقط، من أمره التنفيذى بـ«تعليق» المساعدات الخارجية لمدة تسعين يومًا. مع استثناء إسرائيل ومصر من لائحة الدول التى يشملها، مع إبقاء الأردن فيها. ما عُدّ بمثابة ضغط وابتزاز للأردن، ومحاولة تقديم رشوة «مسمومة» لمصر. وبالتزامن، لم يتورع ترامب عن العمل للحيلولة دون اختيار وزير مالية لبنانى محسوب على حزب الله.
• • •
رغم تلويح إدارة ترامب توفير ضمانات للفلسطينيين بالعودة، فى نهاية المطاف، بعد مفاوضات مع الشركاء الإقليميين، فجر مقترحه، بترحيلهم إلى الأردن ومصر، موجة رفض ثلاثية داخل البلدين، وعلى المستوى الفلسطينى. فقد أظهر الرئيس السيسى، والعاهل الأردنى، رفضًا قاطعًا للمقترح الترامبى. وتمسك الزعيمان بمسار حل الدولتين، ودعم صمود الشعب الفلسطينى على أرضه، وتمسّكه بحقوقه المشروعة غير القابلة للتصرف، سواء من خلال الاستيطان، ضم الأراضى، أو التهجير. كونه يهدد الاستقرار الإقليمى، ينذر بإدامة الصراع، ويقوض فرص السلام والتعايش بين شعوب المنطقة. وفى مؤتمر صحفى جمعه مع المستشار الألمانى، أولاف شولتس، يوم 18 أكتوبر 2023، حذر السيسى من أن تهجير الفلسطينيين إلى سيناء سيجعلها قاعدة للمقاومة، ويُنهى السلام بين مصر وإسرائيل. وقد حظى الموقف الرسمى المصرى بدعم شعبى واسع النطاق. حيث رفضت الأحزاب السياسية، المجتمع المدنى، والبرلمان، بشكل قاطع، أية ترتيبات أو محاولات لتغيير الواقع الجغرافى والسياسى للقضية الفلسطينية. بما يضر بالأمن والاستقرار، ليس فى مصر فحسب، وإنما فى عموم المنطقة. وخلال مسيرات غمرت مدن مصرية شتى، رفع المتظاهرون شعارات تؤكد رفض التهجير القسرى للشعب الفلسطينى، والتشديد على حقه فى أرضه، داعين إلى حل الدولتين كمسار عادل للقضية الفلسطينية.
• • •
بينما قوبل مقترح ترامب برفض فلسطينى عارم، اعتبرت صحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية تدفق الفلسطينيين فى موجات بشرية هادرة عائدين إلى شمال القطاع، رافعين شارات النصر وأعلامًا فلسطينية، تفنيدًا لمزاعم نتنياهو حول النصر المطلق، وتأكيدًا لانتصار حماس. فيما وصفه الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية، مصطفى البرغوثى، «عودة طائر العنقاء». ذلك أن الشعب الفلسطينى لا يفنيه إرهاب، قتل أو تهجير. كما ينهض دومًا من الرماد، نهوضًا يؤجج رغبة «العودة» فى الوعى الجمعى الفلسطينى.
أثار اقتراح ترامب بشأن ترحيل فلسطينيى غزة إلى مصر والأردن، مخاوف من خطط أمريكية تتوافق مع مآرب اليمين المتطرف الإسرائيلى، لترحيل الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن، بذريعة إعادة الإعمار. وفى هذا الصدد، حذر خبراء من أن تفضى هكذا مخططات إلى انهيار اتفاقات السلام بين إسرائيل وكل من الأردن ومصر، زعزعة استقرار المنطقة، تنفير الحلفاء الرئيسيين لواشنطن فى ربوعها، فضلا عن انهيار أحلام ترامب لجهة توسيع السلام الإبراهيمى. حيث حذر السيسى فى أكتوبر 2023، من انهيار السلام، بجريرة تصفية القضية الفلسطينية، لافتًا إلى تعاظم المخاوف الأمنية جراء توطين تجمعات من اللاجئين المتعاطفين مع حماس فى الدول، التى لديها تجارب مريرة فى مكافحة الإرهاب. ومن شأن التطهير العرقى للفلسطينيين أن يفند مزاعم ترامب بشأن إقرار السلام فى المنطقة، ويخلف تداعيات وخيمة على المصالح الأمريكية بها، كما يقوض استقرار الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
تنتوى إسرائيل تفريغ الأراضى التى تحتلها من سكانها الأصليين. فبموازاة ما تشهده من مصادرة للأراضى، وتمكين المستوطنين من الاستيلاء على البيوت والمزارع الفلسطينية، تكابد الضفة الغربية تهجيرًا قسريًا داخليًا للفلسطينيين. وفى خطوة تشكل بداية عملية لضمها إلى إسرائيل وفرض سيادتها عليها، أقرت لجنة وزارية إسرائيلية، قبل أيام قليلة، مشروع قانون يتيح للمستوطنين الإسرائيليين شراء الأراضى والعقارات مباشرة من الفلسطينيين بالضفة الغربية. دونما حاجة إلى وجود شركة استيطانية، أو موافقة وزارة الدفاع الإسرائيلية، أو الحاكم العسكرى. لا سيما أن الضفة الغربية تعتبر أراضى واقعة تحت الاحتلال الإسرائيلى، ولا تخضع للقانون المدنى الإسرائيلى. كذلك، أطلق جيش الاحتلال تحذيرا جديدا لسكان جنوب لبنان من العودة إلى منازلهم، رغم الإعلان عن تمديد الهدنة، حتى الثامن عشر من الشهر الجارى.
بخيبة أمل، منيت مساعى ترامب لإيجاد بديل لمصر والأردن، بشأن استقبال الفلسطينيين المهجرين. فما كاد يلوح بخيارات بديلة، مثل إندونيسيا وألبانيا، اللتين تعانيان الفاقة وعوزا فى العمالة، متعهدا بتقديم حوافز اقتصادية لهما، لتسهيل إقناعهما باستيعاب اللاجئين الفلسطينيين؛ حتى قوبل مقترحه برفض حاسم من لدن الدولتين. فلقد أكد رئيساهما، عدم تلقيهما أية طلبات لاستقبال أولئك اللاجئين. وأكدت الدولتان احترامهما حقوق الشعب الفلسطينى، اللتين اعترفا، بدولته فور إعلان الاستقلال الفلسطينى، الذى صدر عن المجلس الوطنى الفلسطينى بالجزائر فى 15 نوفمبر 1988. أما دوليا، فقد تبلور رفض عالمى لمخطط ترامب حيث عارضته الدول العربية والإسلامية، الاتحاد الأوروبى، الأمم المتحدة، بل وأعضاء فى الكونجرس الأمريكى. حيث اعتبروا دعوة ترامب مصر والأردن لاستقبال 1.5 مليون فلسطينى من غزة، تطهيرا عرقيا، وجريمة ضد الإنسانية، تقوض حل الدولتين.
يفتأ ترامب يلح فى مطلبه المشئوم؛ فعندما سئل عن الرفض المصرى والأردنى، وما إذا كان يفكر بفرض رسوم جمركية على البلدين لإجبارهما على استقبال الفلسطينيين، أجاب: «نحن نفعل الكثير من أجلهم، وسيفعلون ذلك». أما مستشاره الخاص لشئون الرهائن، فناشد الدولتين تقديم بديل مناسب. وبينما اقترحت القاهرة نقل فلسطينيى غزة إلى صحراء النقب لحين الانتهاء من إعمارالقطاع، الذى أبدت استعدادها لإعماره مع استبقاء ساكنيه؛ يبدو الإلحاح الأمريكى استفزازًا، محاولة لكسب الوقت، فرض المخطط الأمريكى- الإسرائيلى، وإلقاء للكرة فى الملعب العربى. الأمر، الذى يستوجب اصطفافًا عربيًا وإسلاميًا صلبًا خلف مصر والأردن، لمؤازرتهما فى مواجهة المخططات الإسرائيلية والضغوط الأمريكية. على أن يتأتى ذلك ضمن تحرك دولى جاد، لتسريع إعادة إعمار غزة، وقف الاستيطان، وتفعيل المبادرة العربية للسلام.