ينصرف اصطلاح «النظام الإقليمى»، إلى مجموعة من الدول، يجمعها جوار جيوسياسى محدد، ويربطها شعور متفرد بالتميز والتكامل، فى مناحٍ شتى. وقد حدد خبراء العلاقات الدولية حزمة ملامح لهكذا نظام، يتمثل أبرزها فى: توفر مجموعة من الفاعلين الدوليين، عمق الانتماء إلى رقعة جغرافية جامعة، كثافة التفاعلات التعاونية، قوة التجانس الاجتماعى والثقافى، تجذر الوعى الإقليمى، تبلور هوية إقليمية، وانتعاش التكامل الاقتصادى.
تتنوع الآراء بشأن بدايات بزوغ ما اصطلح على تسميته فى الأدبيات السياسية العربية «النظام الإقليم العربى». فثمة من أرجع إرهاصاته إلى ميلاد الدولة الوطنية العربية الحديثة، عقب اتفاقيتى سايكس-بيكو عام 1916، وسان ريمو فى 1920. تلكم اللتين أسستا لبروز الدول العربية فى المشرق، توطئة لتشكيل وحدات ذلك النظام، الذى بدأت عملية مأسسته فى 22 مارس 1945، عبر توقيع حكومات: سوريا، الأردن، العراق، السعودية، لبنان، مصر واليمن الشمالى، ميثاق تأسيس جامعة الدول العربية. ذلك الذى يحتوى على ديباجة تتضمن عشرين مادة، وثلاثة ملاحق، تؤكد توثيق الصلات بين الدول الأعضاء، تنسيق الخطط السياسية، صيانة استقلال الدول العربية وسيادتها. كما تحض على تعزيز التعاون المشترك فى الشئون الأمنية، الاقتصادية، الاجتماعية، الصحية، والثقافية.
تجلت أبرز الإسهامات الفكرية، التى برعت فى التأصيل لأطروحة العمل العربى المشترك والتنظير لمصطلح النظام الإقليمى العربى، فى ذلك الإنتاج المعرفى المميز لكل من: الدكتور على الدين هلال، والأستاذ جميل مطر؛ فى مؤلفهما العمدة المشترك، والمعنون: «النظام الإقليمى العربى.. دراسة فى العلاقات السياسية العربية»، الصادر عن دار المستقبل العربى، عام 1983.
ضاعف المنعطف التاريخى، الذى آلت إليه المنطقة، عقب عملية «طوفان الأقصى» فى السابع من أكتوبر 2023، التحديات البنيوية، التى تحاصر ما بات يعرف بالعمل العربى المشترك. حتى إنه لم يتورع، هذه الأيام، عن تسطير نهاية حالة السيولة الجيوسياسية، التى تعترى المنطقة منذ عقود. ومن أبرز تلك التحديات:
أولًا، التدخلات الخارجية: فلقد شكلت التدخلات الدولية فى الشئون العربية سمتًا ملازمًا للنظام العربى منذ وضع لبناته الأولى. حيث انبلجت فكرة تأسيس جامعة الدول العربية من مبادرة بريطانية، أطلقها وزير الخارجية أنتونى إيدن، من مجلس العموم البريطانى، فى ٢٤ فبراير١٩٤٣. وبعدها بشهر واحد، خرج رئيس وزراء مصر، حينها، النحاس باشا، ليؤكد استعداد الحكومة المصرية لاستطلاع آراء الحكومات العربية بشأن موضوع الوحدة، وعقد مؤتمر لمناقشته. ولم ينقضِ العام، حتى دعا، النحاس، نظيره السورى، جميل مردم، ورئيس الكتلة الوطنية اللبنانية، بشارة الخورى، للتباحث فى القاهرة، حول فكرة إقامة الجامعة العربية.
مع تعاظم تأثير النظام الدولى فى تفاعلات النظام الإقليمى العربى، أضحت نجاعة ذلك الأخير، مرتهنة بمدى استقلاليته عن النظام الدولى؛ فكلما تنامى وزن الأخير على حساب الأول، ضعف النظام العربى أمام طغيان النظام الدولى. ولقد تمظهرت انعكاسات هذا الأمر فى تداعيات الغزو العراقى للكويت مطلع أغسطس 1990. حيث فقد العراق، الذى كان خارجا لتوه منهكًا من حرب مدمرة مع إيران استمرت ثمانى سنوات، جل بنيته الاقتصادية والعسكرية. كما انزلق إلى نفق الحصار والمقاطعة الاقتصادية طيلة عقد ونيف. وعلى وقع الاستقطاب الاستراتيجى العربى الحاد، الذى فجره ذلك الصدع المروع، تنادت القوى الدولية والإقليمية للتكالب على النظام العربى.
مؤخرًا، وفى خطوة قد تعيد تشكيل خريطة التحالفات الإقليمية فى إفريقيا، وتعزز من النفوذ التركى فيها، عبر استراتيجيات من قبيل: التعاون الاقتصادى، المساعدات الإنسانية، الدعم الأمنى والعسكرى، والتحركات الدبلوماسية النشطة. أعلن الرئيس التركى عن الاتفاق على مذكرة تفاهم مشتركة بين إثيوبيا والصومال، برعاية تركية.
ثانيًا، عدم استكمال الدعائم: حيث تضمن ميثاق الجامعة العربية دعوة إلى إنشاء محكمة عدل عربية، لتنظيم العلاقات بين الجامعة والمنظمات الدولية. كما يردف الميثاق ويكمله وثيقتان رئيسيتان، هما: معاهدة الدفاع العربى المشترك، فى أبريل 1950، وميثاق العمل الاقتصادى القومى، فى نوفمبر 1980. غير أن غياب التوافق العربى، حال دون تفعيل أى من هذه الآليات، حتى يومنا هذا. ورغم أن الميثاق يتيح إمكانية تعديله لمواكبة التطورات والمستجدات، بغية توثيق عرى العمل العربى المشترك؛ وذلك من خلال موافقة ثلثى الدول الأعضاء، لم يحدث شىء من هذا القبيل. فى غضون ذلك، لم يجد العرب علاجًا جذريًا لمعضلة تعثر دورية انعقاد مؤتمرات القمة العربية، أو انخفاض مستوى التمثيل الرسمى بها. فرغم الدواعى الملحة لالتآمها، سواء بشكل اعتيادى أو طارئ، لم يجد العرب أية غضاضة فى تأجيل انعقادها غير مرة. بل إن دولًا عربية لم تتورع عن إعلان مقاطعتها أو رفض استضافتها، احتجاجًا على عدم جدواها.
ثالثًا، تعاظم التهديدات العربية-العربية. لم يقتصر تهديد النظام الإقليمى العربى على الأطماع والانتهاكات الإسرائيلية الممنهجة، أو التدخلات الدولية والإقليمية السافرة؛ وإنما امتد ليشمل تهديدات من قبل أطراف عربية لبعضها البعض. فما كادت الحرب الباردة العربية (1952-1970) تضع أوزارها، حتى أفضى الغزو العراقى للكويت عام 1990، إلى شق الصف العربى، والإطاحة بأسس الأمن القومى العربى. وبينما تستعر الخلافات السياسية والنزاعات الحدودية التى تنهش جسد الكيان العربى من مشرقه إلى مغربه، يغدو تعاظم قوة عضو فى النظام الإقليمى بمثابة تهديد للآخر، بدلًا من أن يشكل ظهيرًا داعمًا لجميع أعضاء النظام. وعلى مدى العقود الخمسة المنقضية، تغيرت موازين القوى عربيًا، بفعل تطورات أربعة، هى: توقيع معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1979، ثورة إيران 1979، الغزو الأمريكى للعراق 1990، وتداعيات ما سمى «الربيع العربى» بداية من سنة 2011.
رابعًا، التحدى الوجودى أمام الدولة الوطنية العربية: بينما تفتك حروب نتنياهو، بحلم الدولة الفلسطينية، تكابد دول مثل: العراق، سوريا، لبنان، اليمن، السودان وليبيا، موجة من الانهيار المدوى لمشروع الدولة الوطنية. ويواكب ذلك بروز دور الفواعل العنيفة ما دون الدول، أو أشباه الدول، التى ترتبط بأيديولوجيات دينية أو عرقية أو طائفية، تغذى سياسات الهوية. الأمر الذى يذكّرنا بنبوءات المستشرق، برنارد لويس؛ لا سيما تلك المتعلقة بانحسار مقومات الدولة الوطنية فى المشرق، مقابل بروز التوجهات الطائفية والعرقية. علاوة على ما يتصل بانكماش أدوار الدول العربية مقابل تعاظم نفوذ القوى الإقليمية غير العربية كمثل: إيران، تركيا، إسرائيل وإثيوبيا. وبموازاة الأزمات الصادمة التى تعصف بدول عربية مركزية مثل سوريا، العراق، فلسطين، ليبيا، اليمن، والسودان، تتفاقم معاناة دول عربية تشكل نقاط تماس جيوسياسى مع المحيط غير العربى، على غرار: موريتانيا، جزر القمر والصومال.
خامسًا، طرح كيانات بديلة: شجع تهاوى النظام الإقليمى العربى، أطرافًا إقليمية وقوى دولية على طرح بدائل لذلك النظام؛ فى إطار نظام شرق أوسطى أشمل وأوسع، يلبى تطلعات مريديه. وليست الطروحات المتعلقة بالشرق الأوسط الجديد، أو الموسع، أو الناتو الشرق أوسطى أو العربى، منبتة الصلة بسرديات قديمة تخص تسمية المنطقة بالشرق الأوسط. وهى تسمية سياسية تبتغى تجريد الإقليم من مقومات الوحدة أو التقارب والاندماج بين الدول العربية، بما ينهى عزلة إسرائيل، ويعجل بدمجها، مع تلك الدول. ومثلما عمدت فرنسا إلى إلحاق إسرائيل بجغرافيا البحر المتوسط، عبر مبادرة «الاتحاد من أجل المتوسط»، ترنو المساعى الأمريكية إلى إقامة نظام شرق أوسطى، يكفل إدماج إسرائيل مع الدول العربية ضمن ترتيبات اقتصادية وأمنية؛ بتنسيق مع الحلف الأطلسى، دون اشتراط التسوية العادلة، الشاملة، والمستدامة للصراع العربى-الإسرائيلى.
• • •
تطوى العلاقات العربية-العربية عقدها الثامن، بينما لا تزال تفتقد جل المقومات الحقيقية للنظام الإقليمى. فى المقابل، تحتدم المنافسة بين مشاريع الهيمنة الإيرانية والتركية. فيما تتواصل استباحة إسرائيل السافرة للأمن القومى العربى، إذ يمضى، نتنياهو، قدمًا فى تغيير موازين القوى فى المنظقة، توطئة لإعادة هندستها جيوسياسيًا، وفقًا للمآرب الإسرائيلية. الأمر، الذى يقوض واقعية الحديث عن «نظام إقليمى عربى»، لم يكن سوى صرح من خيال باحثين وأكاديميين عرب، فهوى.