إمعانا فى انتهاكاتها السافرة للأمن القومى العربى، ومواصلة لعدوانها الغاشم على الأراضى الفلسطينية المحتلة، لبنان، اليمن، وسوريا؛ لم تتورع دولة الاحتلال الإسرائيلى عن التحرش العسكرى بالعراق. ذلك الذى يعتبره الإسرائيليون مركزًا حيويًا لتهريب الأسلحة من إيران إلى سوريا ولبنان؛ ومنصة تطلق من خلالها الفصائل الموالية لإيران، مسيراتها وصواريخها صوب الأراضى الفلسطينية المحتلة. قبل أيام قليلة، أكد المستشار السياسى لرئيس الوزراء العراقى تلقى بلاده رسائل من جهات دولية شتى، بشأن ضربة إسرائيلية مرتقبة ضد بلاده. مذكرا بتنفيذ جيش الاحتلال هجمات سابقة عديدة داخل العراق؛ ومنددا بمحاولاته استغلال قرار مجلس الأمن الدولى رقم 1545، لوضع العراق تحت الوصاية الدولية. وخلال افتتاح المؤتمر الثامن لسفراء العراق بالخارج، حذر وزير الخارجية العراقى من مخطط لتوسيع الحرب الإسرائيلية ضد غزة ولبنان، لتشمل دولاً أخرى. ومؤخرا، أكدت السفيرة الأمريكية لدى بغداد، جدية التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات للعراق. وأشارت وسائل إعلام إسرائيلية إلى اعتزام حكومة، نتنياهو، شن هجوم مرتقب على العراق، بعدما وضعت «بنك أهداف»، يشمل مقار وقيادات تابعة للفصائل الشيعية المسلحة، لاسيما الحشد الشعبى.
• • •
تحسبا لذلك العدوان الإسرائيلى المحتمل، هرعت تلك الفصائل إلى استبدال المواقع العسكرية التابعة لها، والتى تتضمن مخازن أسلحة ومقرات إدارية. وذلك بعدما تحولت إلى قنابل موقوتة، كونها تنتشر بمحيط العاصمة بغداد ومحافظات عديدة مأهولة بالسكان. لم يتورع جيش الاحتلال الإسرائيلى عن استباحة أجواء العراق، مستخدما إياها فى توجيه ضربات ضد إيران، بدعم من واشنطن، التى تتمركز قواتها وقواعدها العسكرية داخل العراق، ضمن التحالف الدولى لمحاربة المتطرفين. فوفقا للرواية الإيرانية، استغلت القوات الأمريكية المجال الجوى العراقى الخاضع لسيطرتها، بموجب اتفاق أمنى بين واشنطن وبغداد؛ لتمكين الطائرات الحربية الإسرائيلية من التحليق الآمن وإطلاق صواريخ محمولة جوا، بعيدة المدى، صوب إيران. وبنهاية أكتوبر الماضى، تقدّم العراق، بمذكرة احتجاج رسمية إلى الأمين العام للأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولى، ابتغاء إدانة ذلك الانتهاك الإسرائيلى السافر لسمائه وسيادته. تفتأ دولة الاحتلال تدعى العمل على منع إيران من إقامة هياكل عسكرية فى سوريا، العراق ولبنان، أو تأمين خطوط إمداد لوجيستى لإيصال الوسائل القتالية لوكلائها فى تلك البلدان، وعبرها. أو استخدام أراضيها منصات لمهاجمة دولة الاحتلال.
وبينما تتذرع الأخيرة بالمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة للرد على الهجمات، التى تستهدفها من العراق، يعتبر الأخير ذلك تمهيدا إسرائيليا لتوسيع العدوان ضده. خصوصا مع تواتر التقارير بشأن نية إسرائيل القيام بضربات عسكرية «وشيكة» ضد قوات HYPERLINK الحشد الشعبى؛ سواء لأغراض الردع، أو بقصد الرد على عملياتها. وتتخوف قوى الإطار التنسيقى، من عدم اكتفاء إسرائيل بمهاجمة معسكرات الفصائل المتهمة بمهاجمتها، بحيث تستهدف مقار حكومية، منشآت نفطية، مواقع استراتيجية، وبنى تحتية. التماسا منها لغطاء سياسى دولى لعدوانها المزمع، قدمت إسرائيل شكوى لمجلس الأمن الدولى، يوم 18 نوفمبر المنقضى، ضد سبعة فصائل عراقية مسلحة، موالية لطهران، تطلق على نفسها «المقاومة الإسلامية فى العراق»؛ تتحدى استراتيجية الحكومة العراقية، القائمة على التهدئة والحياد. حيث تشن هجمات بالمسيرات ضد إسرائيل، تضامنا مع فلسطين ولبنان. كما تحشد فى قضاء سنجار، الذى يشكل موقعا استراتيجيا على الطريق بين إيران وسوريا، لأغراض الدعم اللوجيستى وتسليح قواعد فى سوريا والعراق. وسبق أن أمطرت إسرائيل بأكثر من 200 مسيرة وصاروخ، فيما تواصل الهجمات ضد القوات الأمريكية والتحالف الدولى. وطالبت إسرائيل باتخاذ تدابير عاجلة للتصدى لتلك الفصائل، التى حملت العراق مسئولية أية هجمات تشنها ضدها من أراضيه. لا تعترف دولة الاحتلال، رسميا، بتنفيذ عمليات داخل العراق. لكن، نتنياهو ألمح إلى ذلك، عندما أكد للصحفيين بالعاصمة الأوكرانية فى أغسطس 2019، أنه «ليس لإيران حصانة فى أى مكان». وحينئذ، أقرّت إسرائيل، للمرة الأولى، بقصف قافلة إيرانية على الحدود السورية - العراقية. كما قصفت فى 19 يوليو من ذات العام، قاعدة بلد الجوية، التى كانت تستخدمها الولايات المتحدة فى السابق، لكن الحرس الثورى الإيرانى بات يستخدمها لنقل الأسلحة إلى سوريا. وفى منتصف ديسمبر 2023، اعترف رئيس أركان جيش الاحتلال، باستهداف للعراق مطلع نوفمبر من نفس السنة. وفى خطابه بشأن قبول هدنة لبنان مساء الثلاثاء الماضى، اعتبر نتنياهو العراق إحدى الجبهات السبع، التى يدعى أن إسرائيل تحارب فيها، لردع من يستهدفونها. من جانبهم، أكد مسئولون أمريكيون لـصحيفة «نيويورك تايمز»، أن إسرائيل تضغط من خلال ضرباتها فى العراق لإخراج الجيش الأمريكى منه. لافتين إلى شنها عدة هجمات على مخازن ومستودعات ذخيرة تخص فصائل عراقية موالية لإيران، خلال الأشهر الثلاثة السابقة. استهدفت ثلاث منها قوات الحشد الشعبى بمحافظة صلاح الدين، فيما طالت الرابعة قاعدة فى بغداد تابعة للشرطة الفيدرالية، بينما ادعت أن الميليشيات تستخدمها لتخزين الأسلحة والذخيرة.
رغم تظاهرها بمعارضة العدوان الإسرائيلى على العراق، تضغط واشنطن لوقف ما تسميه هجمات الفصائل المرتبطة بإيران على إسرائيل بالطيران المسيّر. وفى وقت سابق من الشهر الفائت، حذرت إدارة بايدن الحكومة العراقية من أنها إذا لم تمنع هجمات الفصائل الموالية لإيران، التى تستهدف إسرائيل من أراضيها، فقد تواجه هجوما إسرائيليا يعصف بتلك الفصائل. ولا تخفى إدارة بايدن تأييدها «حق إسرائيل» فى ضرب الميليشيات، التى تستهدفها؛ بل وتدعى أنها استنفدت ضغوطها الممكنة على إسرائيل لثنيها عن هكذا تحرك. الأمر الذى يؤجج المخاوف من منحها حرية التحرك ضد دول المنطقة، بذريعة قطع خطوط الإمداد الإيرانية لوكلاء طهران بالسلاح والذخيرة عبر سوريا والعراق. فى الأثناء، أكد الحشد الشعبى امتلاكه معلومات حول إدخال القوات الأمريكية بالعراق، والتى دأبت على استهداف مقاره، خلال العام الحالى، أربع طائرات إسرائيلية مسيرة، عن طريق أذربيجان، لتعمل ضمن أسطول المسيرات الأمريكى، على تنفيذ طلعات جوية ضد مقرات عسكرية عراقية.
• • •
كان الهجوم الإسرائيلى الأشهر ضد العراق، قد وقع عام 1981، عندما دمرت مقاتلات إسرائيلية من طرازى «إف-15»، و«إف ـ 16»، مفاعل «أوزيراك» للأبحاث النووية جنوب بغداد. والذى زعم الإسرائيليون أنه كان يهدف إلى إنتاج أسلحة نووية، يمكن للعراق إسقاطها على إسرائيل، باستخدام قاذفات القنابل العراقية، سوفيتية الصنع، من طراز«بليندر». ورغم ادعاءات إدارة ريجان حينئذ أنها فوجئت بالهجوم الإسرائيلى، تشى مؤشرات عدة بأنه تم بتواطؤ أمريكى. ففى 25 يوليو 1980، أرسل مسئول الاستخبارات الوطنية الأمريكية للشرق الأدنى وجنوب آسيا رسالة تقييم شهرية إلى مدير الاستخبارات المركزية، تضمنت تقديرات بشأن ذلك الهجوم. وأفادت تقارير استخباراتية أفرج عنها حديثا، بأن الإسرائيليين أخطروا البيت الأبيض قبيل أيام قلائل، أور بما ساعات، من تنفيذه. انطلاقا من «دبلوماسية وقائية»، تبتغى تجنيب البلاد ضربة إسرائيلية محتملة، عمدت بغداد إلى ثنى واشنطن عن دعم العدوان الإسرائيلى المرتقب. حيث وجهت الحكومة العراقية وزارة خارجيتها بالتواصل مع إدارة بايدن، حول الانتهاكات الإسرائيلية. بموجب اتفاق الإطار الاستراتيجى الثنائى المبرم بين البلدين، الذى يفرض التزام واشنطن تجاه أمن وسيادة العراق وحرمة أراضيه. وطالب اجتماع طارئ لمجلس الأمن القومى العراقى، واشنطن، اتخاذ خطوات حاسمة، بالتعاون مع بغداد، لمساعدة العراق على الدفاع عن نفسه فى مواجهة التهديدات الإسرائيلية، بمقتضى الاتفاقية ذاتها. بموازاة ذلك، جدد العراق رفضه استخدام أراضيه لمهاجمة أية دولة. نافيا انطلاق ضربات الفصائل الشيعية ضد إسرائيل من تلك الأراضى. كما وجه رسائل رسمية إلى مجلس الأمن، الأمين العام للأمم المتحدة، الجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامى؛ لحضهم على لجم التهديدات الإسرائيلية. وارتأت الخارجية العراقية أن رسالة الاحتلال إلى مجلس الأمن بشأن العراق، تأتى ضمن سياق سياسة ممنهجة؛ لاختلاق مزاعم وذرائع لتبرير العدوان الإسرائيلى عليه؛ تمهيدا لتوسيع دائرة الحرب بالمنطقة. وأكدت حرص العراق على ضبط النفس، فيما يتعلق بانتهاك إسرائيل أجوائه لاستهداف دول جواره. كما حثت المجتمع الدولى على كبح جماح الغطرسة الإسرائيلية المتصاعدة فى المنطقة؛ وضمان احترام القوانين والمواثيق الدولية؛ بما يُسهم فى إرساء دعائم الأمن والاستقرار فى ربوع الإقليم. ينعش تزامن التربُص الإسرائيلى بالعراق، مع سيطرة هيئة تحرير الشام وأعوانها على فضاء جيوسياسى حيوى شاسع بشمال غرب سوريا؛ سرديات «الشرق الأوسط الجديد». تلكم التى تطرح تساؤلات مثيرة بشأن انحسار نفوذ طهران الإقليمى، وتهاوى ما كان يعرف بالأمن القومى العربى.