نشرت صحيفة الخليج الإماراتية مقالًا للكاتب حسن مدن، تحدث فيه عن أحد المفكرين العرب الذين شغلهم تحليل الثقافة العربية الإسلامية، وهو الدكتور محمد جابر الأنصارى. ركز كاتب المقال عن اهتمام الأنصارى فى كتاباته بابن خلدون، وكيف كان عطاء الأخير فى زمنه الصعب أقرب إلى إبداعات عصر النهضة الأوروبية.. نعرض من المقال ما يلى:
يعدّ الدكتور محمد جابر الأنصارى واحدًا من المفكرين العرب المهمين فى العقود الأخيرة من القرن العشرين، ومطالع هذا القرن، سواء فى المشرق أو المغرب، ممن اعتنوا بمناقشة وتحليل بُنى الثقافة العربية - الإسلامية، وتأثيرها فى حاضرنا المعقد، ونجد أنه من المناسب أن نُصنف الأنصارى بأنه خلدونى الهوى، هو الذى خصص أحد مؤلفاته عنه، وفى هذا المؤلف يقف الأنصارى على مفارقة مهمة فى سيرة ابن خلدون، فهو رغم بروزه كعالم اجتماع، كان أيضًا فقيهًا، حتى إنه أصبح قاضى القضاة فى مصر التى أقام فيها الجزء الأخير من حياته وفيها تُوفى، ولعل ميله الفقهى كان وراء موقفه المعلن من الفلسفة حيث كتب عن «إبطال الفلسفة وفساد منتحليها».
الأنصارى محق تمامًا فى قوله إن ابن خلدون، رغم ذلك، وفى ضوء فلسفته الاجتماعية والتاريخية، يعتبر فى مقدّمة الروّاد «الذين أنزلوا الفلسفة من السماء إلى الأرض، من أجل فهم العالم، فقد أبطل فلسفة الميتافيزيقا لتحلّ محلها فلسفة الفيزيقا المجتمعية التى يمكن لعقل الإنسان أن يتعامل معها».
حضر ابن خلدون فى الكثير من مؤلفات الدكتور الأنصارى، ولكننا سنركز فى هذه الورقة على الكتاب الذى خصصه لابن خلدون وحمل عنوان: «لقاء التاريخ بالعصر - دعوة لبذر الخلدونية بأبعادها المعاصرة فى وعى الشعب تأسيسًا لثقافة العقل»، ولنتأمل جيدًا فى عنوان الكتاب ومفرداته: لقاء التاريخ بالعصر، الخلدونية بأبعادها المعاصرة، بذرها فى وعى الشعب، تأسيس ثقافة العقل.
يقول الأنصارى، إن ابن خلدون جاء «فى الفصل الختامى من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، لذلك فإن الزمن وطبيعة التراجع الانعطافى لحركة التاريخ لم يتيحا أن يؤسس مدرسة تاريخية واجتماعية جديدة تسير على نهجه فى ثقافتنا»، ومن وجهة نظره فإن عطاء ابن خلدون فى زمنه الصعب يتمثل فى أن روحه وتجديده أقرب إلى إبداعات عصر النهضة الأوروبية المنتمية إلى شمال ضفة المتوسط، حيث يبدو ابن خلدون شمعة وحيدة فريدة فى ضفة الجنوب، لم تلبث أن لفّها الظلام بعد أن استفادت من إشعاعها مع مثيلاتها فى حضارة الإسلام، تلك النهضة الجديدة المنطلقة فى الشمال، فتبدو مقدّمة ابن خلدون هى آخر كتاب وآخر ومضة إبداع فى تاريخ الحضارة العربية الإسلامية بالمعنى الفكرى الإبداعى فى التجديد الحضارى.
قد ينبهنا ذلك إلى مساهمات فكرية عربية مهمة أتت فى زمن الأفول الذى عشناه ونعيشه، لا تقلّ أهمية عن مساهمات نظيرة فى الغرب وربما لدى أمم شرقية أخرى، لكن لم يجرِ الالتفات إليها، ولم تنل ما هى أهل له من اهتمام، لأنها جاءت فى سياق وزمن من التراجع، فلم تجد لها لا الحواضن التى تحتضنها ولا الروافع التى تظهرها للملأ.