تواجه أقطار السوق الأوروبية المشتركة مجموعة قرارات صعبة فى مجال الطاقة عند نهاية عام 2024، وقد تبينت هذه الصعوبات أثناء مؤتمر «كوب 29»، حيث هيمن التخوف من السياسات السلبية للرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب حول «اتفاق باريس 2015 لمكافحة تغير المناخ»، أكان ذلك بتغيير ترامب سياسات الطاقة الأمريكية بإهمال الاستمرار فى دعم سياسات الطاقات المستدامة، أو احتمال سحب عضوية بلاده مرة ثانية من «اتفاقية باريس».
كما بدأ برلمان السوق الأوروبية يواجه معارضة قوية وزائدة من قِبل حركات الخضر المناوئة لجماعات «اللوبى» الممثلة لشركات الطاقة التى تحاول الضغط على المسئولين الأوروبيين.
وتواجه أوروبا الآن مأزقا نتيجة قرارات اللحظة الأخيرة فى مؤتمر «كوب 29»، حيث تقرر زيادة الدعم إلى 300 مليار دولار سنويا للدول النامية حتى عام 2035 لأجل مكافحة التغير المناخى. والأموال مخصصة لمساعدة الدول النامية أيضا على التكيف مع الفيضانات، وموجات الحر والجفاف، بالإضافة إلى الاستثمار فى الطاقات منخفضة الكربون.
وأصبحت الأقطار الأوروبية فى موقف لا تحسد عليه، فإنها قد قادت حركة مكافحة التغير المناخى من جهة، ولكن من جهة أخرى، تواجه ثلاثة تحديات: كيفية التعامل مع الرئيس ترامب فى القريب العاجل، والتجربة المرة فى تعامله مع أوروبا خلال عهده الأول، والتوقعات بشأن السياسات الأوروبية فى عهده الثانى، خصوصا فيما يخص سياسات الطاقة التى تختلف كليا عن سياسات ترامب المرتقبة، ومدى الالتزام الأوروبى لأوكرانيا فى الحرب مع روسيا إما فى مجال المساعدات المالية الضخمة، وإما فى المسئوليات العسكرية والدفاعية إثر إطلاق أوكرانيا للصواريخ الباليستية الأمريكية على الأراضى الروسية، وما يشكله هذا من تصعيد نوعى فى الحرب، مما قد يترك التزامات مالية إضافية على الأقطار الأوروبية. كما يُتوقع أن تضيف قرارات مؤتمر «باكو» التزامات جديدة، إذ إن المبلغ المقرر الآن يُشكّل زيادة كبرى فى الالتزامات العالمية وهو 300 مليار دولار سنويا للدول النامية بدلا من 100 مليار دولار سنويا لمكافحة التغير المناخى للدول النامية.
ويكمن موقف أوروبا الصعب اليوم، فى عدم القيام بدراسة شاملة للآثار المالية الناتجة عن سياسة «تصفير الانبعاثات» فى الفترة القصيرة خلال 2015 ــ 2035 لتحول الطاقة التاريخى، والأكثر من ذلك التزامها بتوفير دعم أساسى لتعويض دول الجنوب نسبة كبيرة من تريليونات الدولارات لمساعدتها فى تحول الطاقة.
وقادت الأقطار الأوروبية حركة مكافحة تغير المناخ منذ يومها الأول، والأهم أنها قد بادرت بتغيير قوانينها الداخلية فى مجالى الزراعة والصناعة، مما أخذ يُشكل لها مصاعب اقتصادية داخلية؛ إذ تدل إضرابات المزارعين الأوروبيين قُبيل الانتخابات الأخيرة للبرلمان الأوروبى ومؤخرًا فى فرنسا، على احتجاج المزارعين على أسعار السلع الزراعية المستوردة من الخارج، خصوصًا من دول أمريكا الجنوبية؛ حيث يؤكدون أنها لا تطابق التشريعات البيئية التى يتبعونها فى أوروبا، ومن شأن ذلك أن يجعل البضاعة الزراعية المحلية الأوروبية عالية السعر، ومن الصعب عليها منافسة أسعار السلع المستوردة. كما أخذ الساسة الأوروبيون يتخوفون من استغلال اليمين المتزمت لهذه الإضرابات، خشية زيادة نفوذه فى بعض البرلمانات الأوروبية، ولكن أصبح يُشكل اليمين الآن الأغلبية فى البرلمان الأوروبى. ومن المعروف عن أحزاب اليمين، خصوصًا المتطرف منها، معارضتها لكل السياسات المتعلقة بالبيئة، وزيادة الضرائب.
ومما زاد الطين بلة مؤخرًا فوز ترامب الذى يؤيد علنًا برامج اليمين الأوروبى، الأمر الذى يزعج الساسة الأوروبيين التقليديين.
وتواجه أوروبا كذلك مشكلة زيادة التعريفات الجمركية على أدوات وسلع الطاقات المستدامة الصينية مثل: السيارات الكهربائية، وألواح الطاقة الشمسية، وبطاريات الليثيوم، وذلك لحماية منتجاتها المحلية. لكن ردت الصين بزيادة التعريفة الجمركية على بعض المنتجات الأوروبية المستوردة.
ومع زيادة الكوارث الطبيعية من أعاصير وفيضانات، والارتفاع السنوى لدرجات الحرارة عن 1.50 درجة مئوية عند ابتداء الثورة الصناعية، تزداد مطالب الدول الجنوبية بتنفيذ ما تم الالتزام به وهو: الإسراع فى التنفيذ، وزيادة المبالغ المخصصة لدعم مكافحة تغير المناخ.
لقد أصبح من الواضح أنه من الصعب جدًا تنفيذ أجندة «تصفير الانبعاثات 2050» دون تنفيذ المطالب أعلاه للأجندة الطموحة. وسيزيد الأمور تعقيدًا موقف الرئيس ترامب المعادى لتعزيز حملة مكافحة تغير المناخ، مما سيجعل الأمور أكثر صعوبة للحصول على القروض والمساعدات من الدول الصناعية، وصناديق التنمية المتعددة الأطراف. وهنا، وفى ظل سياسات ترامب المعلنة، يبقى التحدى الأكبر فى تنفيذ التعهدات المالية الجديدة التى تم الاتفاق عليها؛ إذ من الصعب جدًا تحقيق هذه التعهدات من دون المشاركة الأمريكية المالية.
كما تواجه الأقطار الأوروبية مسئولية وإمكانية استبدال الغاز الروسى الذى أعلنت مقاطعتها له بسبب حرب أوكرانيا. وقد نُشرت تقارير إعلامية عدة حول قيام عمليات تهريب بعض الشحنات إلى بعض الدول الأوروبية. وفى حال صحة هذه الأخبار، فإن أوروبا بحاجة ماسة إلى إمدادات مستقرة وضخمة لتعويض الغاز الروسى، ناهيك عن توقيع عقود طويلة المدى توافق عليها الدول المنتجة. وهنا تختلف مصالح الدول المنتجة عن الدول المستهلكة، فعقود الغاز المسال تمتد عادة لنحو 25 ــ 30 سنة، وذلك لكى تضمن الدولة المنتجة أنها ستحصل على ريع وافٍ يعوض التكاليف الباهظة لتشييد الموانئ والناقلات المتخصصة، هذا بينما حاولت الدول الأوروبية عند مفاوضاتها مع الدول المنتجة، بعد مقاطعة الغاز الروسى، الحصول على عقود قصيرة المدى، إلى حين تطوير مشاريع طاقات مستدامة، ومن ثم تحسين موقعها التنافسى.
الشرق الأوسط اللندنية
وليد خدورى
خبير اقتصادى من العراق