العالم يتأهب - مدحت نافع - بوابة الشروق
الإثنين 3 فبراير 2025 11:01 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

العالم يتأهب

نشر فى : الإثنين 3 فبراير 2025 - 6:50 م | آخر تحديث : الإثنين 3 فبراير 2025 - 6:50 م

بدأ الرئيس ترامب ولايته الرئاسية بحروب على مختلف الجبهات المحلية والدولية. قبل أن يدخل البيت الأبيض فى 20 يناير الماضى، أطلق تصريحه الشهير عن تحويل الشرق الأوسط (الملتهب بالفعل) إلى جهنم إذا لم تقم حماس بتسليم المحتجزين الإسرائيليين! ارتدادات ذلك التصريح وحده على الأسواق كفيلة بشل حركة التجارة والسياحة وتدفقات رءوس الأموال وإشعال بورصات السلع والأوراق المالية بموجات من الصدمات الناشئة عن مخاوف تلك الحرب الموعودة التى لا يعلم مداها إلا الله.

لكن الأسواق باتت أكثر حلمًا فى التعاطى مع تصريحات ترامب، إذ بدا وكأنها تنقسم عمليًا إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول هو التصريحات الشعبوية المتغطرسة التى ترفع شعارات أمريكا أولًا ولا مكان للمهاجرين ولا صوت يعلو فوق صوت أمريكا! وهى الغالبة على تغريداته ومداخلاته عبر وسائط التواصل الاجتماعى، والتى يخاطب بها اليمين المتطرف على مدار الساعة. وتلك يحصد ثمارها مباشرة من خلال الدعم المحلى المادى والمعنوى الذى تتلقاه إدارته من هذا التيار.

النوع الثانى هو التصريحات المؤسسة والممهدة لنظام عالمى جديد، وتلك يختلط فيها المنطق بالأوهام، وتعلو فيها نبرة لا مؤسسية غارقة فى الفردية، لكنها لا تخلو أيضًا من الواقعية، إذ يشهد العالم كله تحوّلات كبرى من شأنها إعادة تشكيل مراكز القوى وعناصرها وأدواتها. وبتلك التصريحات تشعر أن الرئيس الأمريكى يحاول التعجيل بالاشتباك مع منافسيه، وفى مقدمتهم الصين، قبل أن يتهيأ لهؤلاء المنافسين فرصة اختيار اللحظة الحاسمة التى تزاح فيها الولايات المتحدة عن مركز قيادة العالم.

أما النوع الثالث من التصريحات، فهو أكثر انضباطًا واشتباكًا مع القضايا المحلية والعالمية، وتلك ينضبط إيقاعها بفضل الثلث الحكيم فى الإدارة الأمريكية، والذى تراهن عليه المؤسسات فى أن تستمر الغلبة لها فى المسائل المصيرية. وعندما تصحو الأسواق على قرارات للرئيس الأمريكى مؤيدة للنوع الأول من التصريحات، فإنها تتمهّل فى اتخاذ قرارات البيع والشراء، لربما أتت أحكام قضائية أو تحركات نيابية لإلغاء أو الحد من التداعيات السلبية لتلك القرارات. ولأن العالم منذ عام 2020 تقريبًا بات مسرحًا لصدمات متعاقبة عظمى من جائحة إلى حروب وفواجع مناخية لا تكاد تنقطع أو تهدأ، فقد ارتفعت درجة تحمّل المخاطر فى الأسواق، وارتفعت معها شهية المخاطر عند المستثمرين والمؤسسات المالية.

• • •

فى الأسبوع الأول من استلام الرئيس الأمريكى مفاتيح البيت الأبيض، ألغى مخصصات بقيمة نصف تريليون دولار، كان الرئيس السابق "جو بايدن" قد أقرّها لدعم البنية التحتية الخضراء، استجابة إلى أحد أخطر التحوّلات الكبرى فى القرن الحالى وهو الغليان العالمى. لكن هذا الإلغاء اقترن بتخصيص مماثل لذات القيمة من الدولارات لصالح البنية التحتية التقنية المعززة لثورة تكنولوجية جديدة تقوم على الذكاء الاصطناعى والعملات الرقمية والبيانات الكبيرة.. فى إشارة واضحة إلى أن الإدارة الأمريكية الحالية (والتى ينتمى ثلثها تقريبًا إلى قطاع التكنولوجيا) تصوّت بكل قوتها تجاه انتقال تقنى مواكب لتحوّلات تكنولوجية كبرى، على حساب انتقال بيئى أو طاقى للتعامل مع تحوّل المناخ.

هذا التصويت الحصرى المؤيد لتصريحات انتخابية حول أهمية الريادة الأمريكية فى مجال الذكاء الاصطناعى، قابلته صفعة إطلاق Deep seek الصينية تطبيق للذكاء الاصطناعى منافس للتطبيقات أمريكية المنشأ، أقل تكلفة وأخف تحميلًا على أجهزة الهاتف وبلا مقابل مادى مباشر، الأمر الذى تهاوت معه أسعار أسهم العديد من شركات التكنولوجيا فى البورصات الأمريكية.

الإدارة الأمريكية الجديدة ترجّح أيضًا من تعزيز العولمة العكسية، بتبنيها سياسة حمائية أشعلت حربًا تجارية مبكّرة، كانت منذ أيام قليلة سببًا فى إعلان كندا عن رسوم جمركية على واردات أمريكية بـ25% كرد فعل لقرار مماثل من الولايات المتحدة، صاحبه رسوم تبلغ 25% على واردات المكسيك و10% على واردات الصين للولايات المتحدة. وأحسب أن استجابة الأسواق للقرار الكندى ستكون أكبر من استجابتها للقرار الأمريكى، لأن رد الفعل العالمى على سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة هو وحده الذى سيحوّلها إلى واقع. كأن ما يعد به «ترامب» (بل ما يقرره أحيانًا) لا يعدو أن تكون تهديدات جوفاء قابلة للإلغاء والنكوص عنها، حتى تظهر ردود الفعل من حكومات أكثر جدية ومؤسسية فى التعامل. هنا أيضًا ينتظر العالم خطوات انتقامية مماثلة من المكسيك والصين ضد الولايات المتحدة الأمريكية (حتى كتابة هذه السطور).

•••

على صعيد الصراعات الإقليمية (مثل حرب غزة، وحرب روسيا-أوكرانيا) فإن غطرسة القوة الأمريكية والتلويح بسلاحى العقوبات وقطع المساعدات يمكن أن تكون سببًا فى سرعة حسم تلك الصراعات، متى كانت مؤسسة على شئ من التوازن والإنصاف. أما إذا مالت بالغلو تجاه طرف على حساب الطرف الآخر، فإن أى تهدئة هشّة لهذا النوع من الصراعات سيكون مآلها الانهيار، وعودة الصراع إلى ما كان عليه وربما بصورة أكثر حدة وأشد ضراوة. تهدئة الصراعات الجيوسياسية ستكون أهم إنجازات الإدارة الأمريكية، وأكثرها تحفيزًا للنمو والتشغيل، والتخلّص من التقلبات الحادة فى أسعار السلع ومواد الطاقة وتكاليف النقل والتخزين والتأمين.

الدولرة العكسية ستكون أيضًا منتجًا هامشيًا للسياسات الحمائية الأمريكية، خاصة لو لم يستجب العالم لتهديدات الرئيس الأمريكى بالعقوبات على من يستبدل بالدولار أية عملات أخرى، ومن ذلك عملة تجمّع بريكس الموعودة، أو عملات الدول الأعضاء فى التجمّع. انتشار تلك الحدة فى التهديد والسفور فى مواجهة العالم بلا تمييز ستكون له بكل تأكيد آثاره السلبية على الدولار الذى ربما تستمر الاقتصادات الكبرى فى نزعه من مكوّن الاحتياطى لصالح الذهب والعملات الأخرى. معاقبة الدولار ستكون بمثابة معاقبة للرئيس الأمريكى الذى يعتبر الدولار الأقوى والاستثنائية الأمريكية ثابتين لسياساته لا يقبلان التنازل عنهما أو التراخى فى الدفاع عنهما تحت أى ظرف.

صدمات جانب العرض (المتعلّقة بتكاليف الإنتاج) هى أيضًا من أبرز التحوّلات الاقتصادية الكبرى التى نعيشها هذه الأيام. ويعزز من صدمات جانب العرض تلك النزعة الانغلاقية والعولمة العكسية التى تتبناها إدارة الرئيس ترامب. لا تنس أن طرد المهاجرين ووضع قيود على استقبال العمالة فى الداخل الأمريكى والأوروبى تساعد أيضًا فى إشعال تلك الصدمات. العمالة الرخيصة التى سيتم التخلّص منها لصالح عمالة وطنية أعلى تكلفة ستمثّل صدمة فى جانب التكاليف وتساعد على تأجيج ارتفاع الأسعار. ومع استمرار التضخم، يستمر التشديد النقدى والكبح المالى، وتتعطّل محركات النمو وينخفض الطلب على النفط وتتراجع فرص التشغيل، ومن ثم تزيد الاضطرابات والتطرف والعنف المشفوع بزيادة معدلات الفقر. انفجار أزمة الديون أيضًا سيكون حادًا، حال نجاح الإدارة الأمريكية فى تعزيز مكانة الدولار مع استمرار التشديد النقدى وصدمات العرض التى ترفع من تكاليف الديون.

• • •

لو أن تلك السياسات التى يتبناها الرئيس ترامب قد ظهرت قبل منتصف القرن الماضى، لتمكّنت الولايات المتحدة من تأصيل انعزالها، والاستغناء بمواردها المحلية العظيمة عن العالم كله، ولتغيرت نتيجة الحرب العالمية الثانية التى رسمت وجه الأرض كما نعرفها اليوم. لكن الولايات المتحدة فى نسختها الحاضرة لا تملك مقومات الانعزال، ولا تملك كل الحلول بمعزل عن التجارة وتدفقات رءوس الأموال، ولا تملك سلاسل التوريد محليًا بأية صورة، ولا تملك التخلّص من نسيجها السكانى الذى ارتفعت فيه نسبة الملونين بشكل كبير، وشكّلت عناصر القوى الحقيقية للريادة الأمريكية المعززة بقبول الاختلاف.

لكن على أية حال، هذا السفور فى العداء لكل ما يعترض استمرار الهيمنة الأمريكية، ربما يكون أفضل من الصوابية السياسية التى كان الديمقراطيون يستترون خلفها تحقيقًا لتوزانات صورية، لا تعالج الأزمات ولا تشتبك معها بأية صورة، حتى إن أكبر الصراعات وأكثرها دموية عادة ما تشتعل تحت قيادتهم! ناهيك عن التوابع الاقتصادية السلبية التى بدا وكأن القيادات الديمقراطية الحالية لا تملك لها حلولًا.

 

 

 

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات