عن اجتماع الحكومة برجال الأعمال - مدحت نافع - بوابة الشروق
الخميس 2 يناير 2025 5:01 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن اجتماع الحكومة برجال الأعمال

نشر فى : الإثنين 30 ديسمبر 2024 - 6:45 م | آخر تحديث : الإثنين 30 ديسمبر 2024 - 6:45 م

كثيرة هى الدروس المستخلصة من اجتماع السيد رئيس مجلس الوزراء مع عدد من رجال الأعمال الأسبوع الماضى. من الناحية العلمية، كان الاجتماع زاخرًا بالدلالات التى ناشدت طلابى فى مادة مناهج البحث فى علم الاقتصاد أن يلتمسوا منها مدخلًا لتحليل كفاءة وفاعلية بعض أدوات جمع البيانات من مصادرها الأولية والثانوية، ومن تلك الأدوات مجموعات التركيز، التى تعمد إلى العصف الذهنى لتناول بعض المشكلات.
كان هذا هو أقرب توصيف للاجتماع المذكور، حيث لجأت الحكومة إلى جمع عينة مقصودة من رجال المال والأعمال للإدلاء بآرائهم فى الواقع الاقتصادى، وتوقعات الخروج من الأزمة الاقتصادية الراهنة. التوصيف الأخير هو أقرب ما يكون إلى موضوع البحث، الذى أمكن استنتاجه من سير حلقة النقاش، وفيها جلس رئيس الوزراء كمراقب مشارك، بينما انتقلت الكلمة بين سائر المشاركين لتناول مشكلات متفرّقة وطرح الحلول المقترحة من زوايا عديدة. وإذا كان الغرض المباشر للاجتماع هو تعظيم العائد من التواصل بين الحكومة ومجتمع الأعمال، فإن العديد من الأهداف غير المباشرة يمكن تحقيقها عبر إرسال إشارات للأسواق المحلية والعالمية، مفادها أن الحكومة تهتم بالإصغاء إلى مجتمع الأعمال لدى وضع السياسات الاقتصادية.
الإعداد للحلقة النقاشية وتصميم وصياغة أهدافها وأسئلتها بدقة، والحرص على تمثيل العينة للمجتمع المبحوث، هى أمور مهمة للوصول بنتائج النقاش إلى أكبر عدد ممكن من الأهداف المخططة. وإذا كان أحدث تعداد اقتصادى متاح عن مصر (وهو قديم جدًا يقف عند بيانات عام 2017/2018) يشير إلى أن عدد المنشآت الاقتصادية يصل إلى ما يزيد على 3,7 مليون منشأة، فإن ما يقرب من 90% من تلك المنشآت تنتمى إلى فئة رأس المال ما دون مائة ألف جنيه، بينما تقبع حصة المنشآت التى يتجاوز فيها رأس المال المدفوع 10 ملايين جنيه عند نسبة 0,18% من إجمالى المنشآت. وقد بدا واضحًا أن الحضور ينتمون جميعًا إلى الفئة العليا من حيث قيمة رأس المال. أما من الناحية القطاعية ومن زاوية المساهمة فى الناتج المحلى الإجمالى، فالتعداد المشار إليه يؤكد تفاوت الأنشطة بشكل كبير، وكان من المناسب تمثيل تلك القطاعات والأنشطة على نحو أكثر تعبيرًا عن الكتلة الكبرى المؤثّرة فى الاقتصاد. وقد بدا واضحًا انحياز كتلة الحضور إلى القطاع العقارى، أو الصناعى الذى يخدم نشاطًا عقاريًا وريعيًا فى الأساس. وعلى أية حال فإن عدم وضوح المعايير التى جرى على أساسها اختيار المشاركين فى الحلقة النقاشية، يرجّح انحياز العينة المختارة، وبالتالى ضعف موثوقية واعتمادية نتائج النقاش المؤدية إلى تقويم السياسات الاقتصادية.
وحتى يتم تعظيم العائد من العصف الذهنى لممثلى قطاع الأعمال فى جلسة واحدة قصيرة، لا بد من الوقوف على السؤال المحدد للنقاش، وتأطير هذا السؤال فى جدول أعمال منضبط، بحيث لا تتشعّب النقاشات فى اتجاهات متباينة ومحاورات أفلاطونية وخلافية وأحيانًا غير مرغوبة. من ذلك مثلًا التوجّه بالنقد الواضح للسياسة النقدية المتشددة (رفع أسعار الفائدة)، والتى يغيب تمثيلها عن الاجتماع، ما اضطر السيد رئيس الوزراء إلى أن يبسط رأيه أو تصوّره لحركة أسعار الفائدة خلال العام المقبل! هذا التصريح العلنى لممثل السلطة التنفيذية من شأنه التأثير سلبًا على استقلالية البنك المركزى، والضغط على لجنة السياسة النقدية التى عقدت اجتماعها (المعلوم تاريخه) بعد يومين من الحلقة النقاشية موضوع المقال. يحول هذا التأطير أيضًا دون شطحات فكرية بعيدة عن الممارسات الاقتصادية الشائعة، بل بعيدة عن النظرية الاقتصادية فى كثير من الأحيان.
• • •
لكن المعلومات التى دعوت طلابى إلى استخلاصها من الاجتماع تتجاوز الأفكار التى جرى تداولها بين الحضور، والتى كانت تسرى فى اتجاه واحد تقريبًا خلا من التفنيد والفرز والتصويب. فالنسبة الغالبة من المعلومات كامنة فى دلالات المداخلات، وما عساه قد ظهر من إشارات بين السطور. مثال على ذلك، غياب المعلومات الموثّقة، واعتراف بعض المشاركين بأنهم لا يملكونها على الرغم من كونها متاحة ومنشورة! لكن ربما كان التضارب بين جهات إتاحة المعلومات المنتمية إلى ذات المصدر، سببًا واضحًا فى هذا الالتباس. أيضًا يمكن ملاحظة غلبة الفكر الريعى والتخريجات المحاسبية على الاقتصاد الإنتاجى والحلول الاقتصادية المستدامة. كذلك كان ارتفاع تكلفة رأس المال مؤرّقًا لكل الحاضرين، لكن قلة منهم فقط كانت قادرة على عزل السبب عن النتيجة، وتشخيص الوضع الراهن من واقع الفهم لتحديات الاقتصاد الحقيقى المتعلّقة بالاستثمار والإنتاجية، وعزلها عن الأعراض النقدية الماثلة فى ارتفاع أسعار الفائدة والشح الدولارى وارتفاع معدلات التضخم.
من الإشارات الملفتة فى الحلقة النقاشية ما اعترى بعض المداخلات من تبسيط مخل وإسقاط جانبه التوفيق. التبسيط المخل المشار إليه يتجلّى فى محاولة البعض إسقاط ما يخص المشروع الخاص على اقتصاد الدولة! وهذا مدخل يصلح لشرح أساسيات ومفاهيم الاقتصاد، لكنه لا يجدى نفعًا فى ترشيد السياسات الاقتصادية؛ فحينما تكون مسئولًا عن المالية العامة، لن ينفعك التربّح من قطاع على حساب سلامة وتوازن الاقتصاد ككل.. فى المشروع الخاص يمكن أن تحقق أرباحًا إذا بلغت مستوى معين من المبيعات، لكن النظرة الكلية قد ترى أن الخسائر قد تضاعفت نتيجة ذلك السلوك البيعى، لو أن هذا المشروع باع منتجاته لمشروع آخر بأمر من الحكومة -مثلًا- وبأسعار غير تنافسية وكفاءة منخفضة فى التكاليف. تخيّل معى مثلًا الأعمدة الخرسانية لبعض المشروعات القومية للنقل، والتى ارتفعت تكلفتها كثيرًا بفعل ارتفاع أسعار مواد البناء، فالمشروع الخاص يمكنه تغطية جانب من تلك التكلفة ببيع مساحات إعلانية على تلك الأعمدة للقطاع الخاص. لكن فكر الاقتصاد الكلى يرى خلاف ذلك، فقد يتسبب هذا البيع للمساحات الإعلانية فى مزيد من رفع التكلفة الكلية للأعمدة، خاصة إذا تم البيع لشركات وطنية ولم ينشأ عنه دخول تدفقات من الخارج أو خلق قيمة مضافة حقيقية للإعلان.
• • •
كل ما سبق ذكره يجب ألا يفهم أنه ينتقص من أهمية هذا النوع من النقاشات، أو ينال من اجتهاد المشاركين الذى أراه مشكورًا مهمًا بلغت درجة الاختلاف المحمود معه. بل إننى أدعو إلى استثمار مزيد من الوقت والمجهود للإعداد والتصميم لهذا النوع من الحلقات النقاشية، مع استخدام مختلف أدوات العصف الذهنى والرصد والتحليل من قبل فرق معاونة متخصصة فى مجلس الوزراء، بغية ترشيد النتائج وتحقيق الأهداف المرجوة من تلك الدعوة المهمة لاستخلاص الأفكار.
وبصفة عامة، فإن كل أشكال الحوار المجتمعى وصيغه التى انتشرت مؤخرًا فى مصر، تؤكد على أهمية المشاركة الشعبية فى صنع السياسات، خاصة تلك التى يدعمها مداخلات الخبراء وذوى الاختصاص. لكنها تؤكد أيضًا أن البرلمان بغرفتيه لم يعد يؤدى هذا الدور بالكفاءة المطلوبة، وإلا كانت اللجان البرلمانية المتخصصة أكثر كفاءة فى استضافة هذا النوع من النقاشات فى جلسات الاستماع إلى الخبراء، من أجل صياغة التشريعات وتفعيل المشاركة الحكومية، لضمان تحوّل النصوص إلى إجراءات وممارسات على الأرض. فهل ننتبه إلى تلك الحقيقة قبل الانتخابات البرلمانية المقبلة، للتأكّد من تمثيل الشعب على نحو يحقق غايات المشاركة الشعبية، ولا يلجأنا باستمرار إلى مقاربات تشبه العمل البرلمانى، ولا تحقق التمثيل الشعبى المنضبط؟

 

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات