تستعصى معالجة آثار الدمار المروع، الذى أحدثه العدوان الإسرائيلى الحالى على غزة، من دون إشراك المجتمع الدولى فى المبادرات السياسية وترتيبات إعادة الإعمار. ولما كان الأمر يستجدى انعقاد مؤتمر دولى بمشاركة مانحين عالميين، فقد أبدت مصر استعدادها لاستضافته، أسوة بما فعلت عام 2014. مؤكدة أن وقف العدوان وإنهاء الحرب بشكل مستدام، يمثلان دعائم أية مقاربة ناجعة لإعادة الإعمار. أما الأمم المتحدة، فدشنت فى الثامن من يناير الجارى، أولى خطواتها على هذا الدرب العسير، عبر تعيين منسقة للشئون الإنسانية وإعادة الإعمار، بموجب قرار مجلس الأمن الدولى رقم 2720 لعام 2023، والهادف إلى زيادة المساعدات الإنسانية للفلسطينيين.
متوسلًا التنصل من مسئوليته بهذا الخصوص، أشار نتنياهو، فى حديثه أمام لجنة الشئون الخارجية والدفاع بحكومته، إلى إمكانية تحمل السعودية، الإمارات، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، كلفة إعادة إعمار غزة. كونهم يشكلون كبار مقدمى المساعدات الإنسانية للفلسطينيين على المدى الطويل. تزامن ذلك مع تساؤل أصوات أمريكية وأوروبية بشأن منطقية وجدوى تخصيص مليارات الدولارات من أموال دافعى الضرائب، لإعادة تشييد بنى أساسية فلسطينية، دمرها جيش الاحتلال الإسرائيلى مرارًا، بينما لا يتورع عن معاودة الكرة لاحقًا.
بمقاربة قانونية، لا تخلو من مقاربة أخلاقية، تقع مسئولية إعادة إعمار غزة على عاتق دولة الاحتلال الإسرائيلى، استنادًا على اعتبارات شتى، أبرزها: إن جيش الاحتلال هو المتسبب فى كل ما لحق بالقطاع من تدمير للبشر، الحجر والبنى التحتية. فوفقًا لشهادات جهات إسرائيلية ودولية، اقترف جرائم تطهير عرقى، إبادة جماعية، وجرائم حرب. من خلال إلحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات الفلسطينية، والاستيلاء عليها بغير ضرورة عسكرية. فضلًا عن تنفيذ هجمات، دونما تمييز، ضد السكان والأعيان المدنية، بما فيها المستشفيات، المؤسسات التعليمية والمنشآت الدينية. وجميعها جرائم دولية، بحسب المواد السادسة، السابعة، والثامنة والثامنة مكرر من النظام الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية.
بعدما انضمت إليها 190 دولة، أضحت اتفاقية جنيف الرابعة للعام 1949، والمعنية بحقوق الشعوب الخاضعة للاحتلال، أوسع الاتفاقيات الدولية قبولا، كما غدت مكونًا أصيلًا للقانون الدولى الإنسانى. وهى تقضى بضرورة الحفاظ على الحالة القانونية القائمة بأية منطقة عند احتلالها، حظر النقل القسرى للسكان المحليين خارجها، ومنع إسكان مواطنى دولة الاحتلال بالمنطقة المحتلة. ولما كانت الضفة الغربية وقطاع غزة أراضى محتلة عام 1967، من وجهة نظر القانون الدولى وقرارات الأمم المتحدة، فإن اتفاقية جنيف الرابعة، والأحكام الواردة فى المادة 85/4 (أ) من البروتوكول الإضافى الأول لاتفاقيات جنيف الأربع، تنطبق عليهما.
• • •
تقتضى المسئولية المدنية الدولية، إلزام أية دولة بتقديم تعويض مادى أو معنوى، نتيجة ارتكابها، بصفتها أو أحد أشخاصها الاعتباريين باسمها، فعلًا غير مشروع فى القانون الدولى؛ يترتب عليه ضرر مادى أو معنوى لدولة أخرى أو لرعاياها. ومن هذا المنطلق، تُعَدّ إسرائيل ملزمة بتعويض الفلسطينيين، الذين اعترفت غالبية أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة بدولتهم، عن مختلف الأضرار الناجمة عن الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية، ابتداءً. وكذا عن كل الانتهاكات المنبعثة من حرب الإبادة ضد سكان غزة. فلقد تفاقمت الأضرار الناجمة عن العدوان الإسرائيلى، مع تطور التقنيات المستخدمة فى الحرب والدمار، لا سيما الذكاء الاصطناعى، حتى بات من الصعب حصر هذه الأضرار بدقة، أو تحديدها بصورة نهائية. ذلك أن هناك بعض الأضرار غير المعلومة، التى قد تصيب الأشخاص والممتلكات، من دون أن تظهر نتائجها وخطورتها مباشرة.
ثمة أضرار أخرى تنتقل آثارها إلى الأجيال التالية. فلقد أورد مكتب الأمم المتحدة للشئون الإنسانية أن أكثر من 1.8 مليون شخص يحتاجون حاليا إلى مأوى فى غزة، بعد تدمير أكثر من 70% من المساكن، المدارس، المستشفيات والشركات. وتوقع تقرير حديث للأمم المتحدة، أن تستمر إعادة بناء المنازل المدمرة فى القطاع، حتى عام 2040 على الأقل. فهناك أكثر من 42 مليون طن من الركام، تحوى عشرة آلاف جثة قابعة تحت الأنقاض، فضلًا عن الذخائر غير المنفجرة، المواد الخطرة من المستشفيات المتضررة؛ كما تشكل الأنقاض بيئة مثالية للعقارب الصفراء والأفاعى، ومادة الأسبستوس المسببة للسرطان. ولفتت الأمم المتحدة إلى أن إزالة هذا الركام ستستغرق 14 عامًا، وتكلف 1.2 مليار دولار. فيما قدرت مؤسسة راند الأمريكية كلفة إعادة إعمارالقطاع المدمرعموما، بزهاء 80 مليار دولار. مع توفير آلاف الأشخاص المحترفين لجمع الأنقاض والتخلص منها، وهو ما يتعذر توفيره حاليًا.
استنادًا إلى القانون الدولى، يمكن أن يكون التعويض عينيًا أو نقديًا. حيث يتضمن التعويض العينى، إعادة الأمور إلى حالتها الطبيعية قبل وقوع الضرر؛ عبر إعادة بناء المنشآت والبنى التحتية، التى أتت عليها الحرب، ضمان عودة الحياة الطبيعية إلى المناطق المتضررة، إنهاء احتلال غزة والضفة، إعادة الممتلكات العامة والخاصة، والإفراج عن المعتقلين. وأما التعويض النقدى فيتمثل فى تقديم مبالغ مالية مناسبة للدولة المتضررة، بغية جبر الضرر، الذى لحق بمقدراتها.
• • •
ثمة سوابق تاريخية يمكن البناء عليها بهذا المضمار. ففى تطور غير مسبوق، اضطرت إسرائيل عام 2010، إلى الموافقة على تعويض وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا»، بمبلغ 10.5 مليون دولار، مقابل أبنيتها، التى دمرها جيش الاحتلال أثناء عدوانه على القطاع عام 2009. وقد أثار هذا الأمر جدلًا واسع النطاق داخل الأوساط الإسرائيلية، التى تساءلت عما إذا كان ذلك يعنى إقرارا بالذنب. بينما ارتأت منظمات حقوقية دولية، أن الأمر يستوجب دفع تعويضات أكبر للضحايا والمتضررين.
على مستويين، تتجلى مسئولية إسرائيل فى إعادة إعمار غزة: أولهما، ضرورة إنهاء الحصار البغيض وغير القانونى، الذى فرضته دولة الاحتلال قبل 18 عاما، والذى حولها إلى أكبر سجن، ثم أكبر مقبرة على وجه الأرض. ومن ثم، يجب أن يتضمن أى اتفاق نهائى لوقف العدوان، رفع الحصار الكامل عن القطاع، بما يتيح تدفقًا حرًا وسهلًا للسلع، المعدات، مواد البناء، الوقود وحركة الأفراد. كما يجب دمج غزة اقتصاديًا واجتماعيًا مع الضفة الغربية، وبالتالى مع العالم الخارجى. وبعدما رحبت منظمتا «العفو الدولية»، و«هيومن رايتس ووتش» فى بيانين منفصلين بإعلان وقف إطلاق النار فى القطاع، شددتا على أن الكابوس لن ينتهى إلا برفع الحصار الجائر على ساكنيه. وحضت إسرائيل على السماح الفورى، بوصول الإمدادات المنقذة للحياة، كمثل الإمدادات الطبية الحيوية لعلاج الجرحى والمرضى، وتسهيل الإصلاحات العاجلة للمرافق الطبية والبنية التحتية الحيوية الأخرى، إلى جميع بقاع غزة، لضمان بقاء سكانها.
أما ثانيهما، فيتمثل فى تحمل دولة الاحتلال مسئوليتها لجهة كلفة وجهود إعادة إعمار غزة. وحالة تنصلها من تلك المسئولية، يتعين تجميد أصولها المالية فى الخارج، وتوجيهها لهذا الغرض. وذلك تأسيا بما فعلت الدول الغربية مع روسيا، فيما يخص أوكرانيا. غير أن بلوغ تلك الغاية يتطلب تحركًا عربيًا ودوليًا جادًا وعاجلًا. فرغم تحريك الأمم المتحدة عام 1998، قضية تعويض الكويتيين جراء الغزو العراقى لبلادهم عام 1990؛ لم تتم إثارة موضوع تعويض الفلسطينيين بجريرة الأضرار الناجمة عن الحروب الإسرائيلية المتوالية التى استهدفتهم. فيما اعتمدت عمليات إعادة الإعمار، التى أعقبتها جميعًا، على مساهمات المانحين الدوليين، بينما تهربت سلطات الاحتلال المعتدية من تحمل مسئوليتها.
• • •
فلسطينيًا، يتطلب نجاح عملية إعادة الإعمار، إنشاء هيكل إدارى، مؤسسى، شرعى وفعال لإدارة تلك العملية. استنادًا إلى توافق وطنى شامل، قائم على أسس ديمقراطية، ويضمن مشاركة جميع أطياف العمل الوطنى الفلسطينى. كما ينبغى تحديد الجهة، التى ستدير قطاع غزة وتحكمه، عقب وقف إطلاق النار، وإتمام الانسحاب الإسرائيلى. ويتعين أن يغدو تحميل إسرائيل المسئولية المدنية عن إعمار قطاع غزة، وتعويض الفلسطينيين عن الأضرار المادية والمعنوية، ميادين أساسية للعمل الحقوقى والقانونى. على أن يتواكب ذلك مع إثارة مسألة المسئولية الجزائية عن جرائم وانتهاكات الاحتلال. الأمر، الذى يستوجب إعداد ملف قانونى محكم، متكامل ومعزّز بالأدلة، الوثائق وتقارير لجان التحقيق الدولية.