قبل نهاية عام 2024 بيومين ودع الرئيس الأمريكى التاسع والثلاثون جيمى كارتر الحياة، بعد عمر طويل امتد لأكثر من مائة عام.
ولد جيمى كارتر فى عام 1924 لأسرة متوسطة الحال، وكان أبوه صاحب متجر فى ولاية جورجيا ونشأ فى أحياء متواضعة تضم نسبة كبيرة من الملونين، وعاش وسطهم فى مودة وتآلف، وبعد أن أنهى دراسة الثانوية التحق بالكلية البحرية، وحصل منها على بكالوريوس فى الهندسة، وتخرج فيها فى عام ١٩٤٦ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية فلم يكن له تاريخ فى الحرب.
عقب تخرجه فى الكلية البحرية أُلحق بسلاح الغواصات واصطفاه الأميرال Hayman Rickover -مصمم ومنفذ برنامج تحويل الأسطول الأمريكى إلى الطاقة النووية- والذى يعد أبوالغواصة النووية، ونظرًا لعبقرية هذا الضابط فقد احتفظت به الولايات المتحدة حتى تجاوز سن الـ٨٥، وكان صاحب أطول خدمة فى القوات المسلحة الأمريكية.
رصد الأميرال ريكوفر تميز كارتر فشمله برعايته وأرسله لدراسة المفاعلات النووية والحصول على شهادة عليا من جامعة Union college فى نيويورك. وفى أثناء عمله فى البرنامج النورى للبحرية الأمريكية بعث کارتر ضمن فريق أمريكى لاحتواء حادث تسرب نووی خطير فى مفاعلchalk River الكندى سنة 1952 وفى هذه العملية تم إنزاله متدليًا على الحبال إلى عمق المفاعل لاحتواء العطب.
• • •
لعل الغرض من هذا التقديم هو التصدى للصورة التى طرحها خصوم كارتر السياسيين بأنه فتى قروى قليل العلم والتجربة يعمل فى زراعة الفول السودانى فى مدينة Plains الصغيرة فى ولاية جورجيا، وحقيقة الأمر أنه ضابط بحرى ومهندس وخبير فى الطاقة النووية.
استقال جیمی كارتر من البحرية فى عام ١٩٥٣ عند وفاة والده ليعود إلى بلدته لرعاية مصالح الأسرة فى زراعة وتجارة الفول السودانى، وانضم للحزب الديمقراطى وكان نشطًا فى الدعوة إلى الحقوق المدنية ومناهضة العنصرية، ونجح فى الفوز بمقعد فى مجلس شيوخ ولاية جورجيا فى سنة 1963، ثم صار حاكمًا لولاية جورجيا خلال الفترة من 1971 إلى عام 1975 ثم توج نشاطه السياسى بالترشح لرئاسة الولايات المتحدة فى عام ١٩٧٧ وفاز بالمنصب.
لعلنا فى مصر والدول العربية نعرف الرئيس كارتر بدوره فى تحقق اتفاقيات كامب ديفيد التى أدت إلى معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، ولا شك أن دور الوساطة النزيهة والمحايدة التى قام بها کارتر کان لها دور كبير فى تحقيق ذلك، إلا أننى من واقع خبرة شخصية أذكر فضل كارتر فى مكان آخر من العالم، فقد خدمت فى سفارة مصر فى السلفادور فى الفترة من 1975 إلى 1979، والتى كانت تغطى منطقة أمريكا الوسطى التى تضم خمس دول عرفت بجمهوريات الموز، بسبب سيطرة الولايات المتحدة من خلال شركة الفواكه المتحدة united Fruit company التى كان يجلس فى مجلس إدارتها آلان دالاس -رئيس الـCIA- وشقیق جون فوستر دالاس -وزير خارجية الولايات المتحدة.
كانت وكالة المخابرات الأمريكية تدير دول أمريكا الوسطى: (السلفادور وجواتيمالا ونيكاراجوا وهندوراس وكوستاريكا) عن طريق أولیجارکیات عسكرية فاشية تنهب ثروات البلاد وتسوم الشعب وبالًا، وكانت فظائع حكام هذه النظم الفاشية مثل اناستازيو سوموزا فی نيكاراجوا، وكارلوس روميرد فى السلفادور، وشيل جارسيا فى جواتيمالا، الذين تتقزم أمام فظائعهم فظائع فرانكشتاين ودراكولا.
منها اغتيال أسقف السلفادور، وهو يلقى موعظة من على منبر كاتدرائية سان سلفادور واختطاف الراهبات الست واغتصابهن وقلتهن على يد رجال الحرس الوطنى السلفادورى، واغتيال ناشط المعارضة النيكاراجوى فى مطار ماناجوا.
لم تقف شعوب جمهوريات الموز مستسلمة أمام هذا الطغيان بل هبت ثورة فارابوندو مارتين فى السلفادور، والساندينيستا فى نيكاراجوا، وجيش الفقراء والقوات المسلحة الثائرة فى جواتيمالا.
كان فوز جیمی کارتر بالرئاسة أملًا فى عهد جديد فى العالم، وكان أول قرار اتخذه بعد توليه الرئاسة العفو عن من رفضوا التجنيد للمشاركة فى حرب فيتنام الظالمة، وبعد ذلك أعلن أن النظم الفاشية فى أمريكا الوسطى لا يمكن أن تكون جزءًا من العالم الحر، وكانت كلمات كارتر بمثابة ستار النهاية لهذه الأوليجاركيات الشريرة التى ظلت تحاول الصمود أمام ثورة الشعوب، وظلت تدافع عنها بعثات عسكرية أمريكية وأخرى إسرائيلية إلى آخر لحظة.
• • •
انتهت فترة الأمل فى عام ١٩٨٠ بخسارة كارتر الانتخابات أمام عراب اليمين رونالد ريجان، ومن العوامل التى أسهمت فى خسارته فشل العملية العسكرية لإنقاذ الرهائن فى السفارة الأمريكية فى طهران فى ديسمبر ١٩٨٠ التى أسفرت عن مقتل ٨ جنود أمريكيين وتدمير طائرات هليكوبتر، ولأن السياسة هى فن استغلال الحدث أكثر من معنى الحدث فى حد ذاته، فصورت العملية على أنها فشل فى القيادة أحرجت البلاد رغم أن الولايات المتحدة منيت بانتكاسات عسكرية أفدح مثل مقتل ١٥٠ من جنود المارينز فى بيروت فى عام ١٩٨٣، ومقتل ١٨ من القوات الأمريكية فى مقديشيو، إلا أن الدوائر اليمينية استغلت الحادث بشكل أطاح بآمال کارتر فى الانتخابات.
وكان لدور الدولة العميقة والدوائر اليمينية وجماعات المصالح ودوائر المخابرات عامل فى عودة السياسة الإمبريالية، فبعد نهاية حكم كارتر عادت الولايات المتحدة تدعم الأوليجاركيات، ولدينا فى فضيحة الكونترا المعادية لحكومة الساندينيستا فى نيكاراجوا مثال حی، ولعل من المفارقات.
قالت حكومة ريجان إن الساندينيستا اغتصبوا الحكم بالقوة ولن يغادروا إلا بالقوة، وعندما خسر الساندينيستا الانتخابات تخلوا عن الحكم بشكل سلمى، لكنهم عادوا للحكم لاحقًا بانتخابات شعبية. ولا ننسى الفظائع التى ارتكبت فى شيلى بدعم من السى آى إيه طوال فترة حكم بينوشيه.
• • •
جیمی کارتر كان زعيمًا نادرًا وازنًا بين مسئولياته والحفاظ على قوة ونفوذ بلده وبين مسئولياته كرئيس عضو دائم فى مجلس الأمن المنوط به الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، استمر الرئيس كارتر فى جهوده النبيلة من أجل السلام ومن أجل حقوق الإنسان ومن أجل البيئة، وكان من أجدر وأحق من فازوا بجائزة نوبل للسلام التى نالها فى سنة ٢٠٠٢.
وداعًا رجلًا شريفًا شجاعًا مؤمنًا بالسلام وبالعدالة.