مرثية العرب - محمد عبدالمنعم الشاذلي - بوابة الشروق
الثلاثاء 14 يناير 2025 1:22 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مرثية العرب

نشر فى : الإثنين 13 يناير 2025 - 6:45 م | آخر تحديث : الإثنين 13 يناير 2025 - 6:45 م

‎‎عشت عمرى كله منذ أن تشكل وعيى - عربيا بفتح العين وعروبيا بضمها- مؤمنا بالوحدة العربية متطلعا لها يقينى أن لا عز ولا متعة لأى قطر عربى خارج صف عربى واحد وجبهة عربية موحدة، تجعلنى هذه الخلفية حزينا بأسى وأنا أكتب هذه الكلمات التى كنت أتمنى أن تشل يدى ويكف بصرى قبل أن أكتبها. فأنا هنا أرد على تساؤل طرحه نزار قبانى فى قصيدة بعنوان متى يعلنون موت العرب؟ والآن وبعد قرابة ثلاثين عاما أجبت على سؤاله: لقد مات العرب ورحلوا لا يأسف عليهم أحد، ماتوا ودفنوا. لعل إحساس الفنان المرهف داخل نزار قبانى جعله يحس بالنهاية فمات فى عام 1998 بعد شهور من نشره هذه القصيدة، ورَحَمَه الله من مشاهدة موت أمته وحضارته وحلمه.

‎العروبة شعور فطرى طبيعى يحسه كل عربى مسافر إلى خارج المنطقة العربية عندما يسير على رصيف شارع أوروبى ويسمع حوارا بين عرب على الرصيف المقابل فيعبر الشارع لاشعوريا تكاد تدهسه السيارات القادمة ليقترب من بنى أمته.

‎عبرنا عن حبنا للعروبة بأن غنينا لها فى عشرينيات القرن الماضى، كتب أحمد شوقى يا جارة الوادى للبنان وغنى لدمشق، وفى الأربعينيات غنى فريد الأطرش الأوبريت الجميل «بساط الريح» بعيدا عن السياسة وعن خطابات الوحدة ذاكرا فيها شوقه إلى سوريا وإلى لبنان ومخاطبا العراق بلاد الأمجاد متسائلا تونس فين ومراكش فين.

‎لحن محمد فوزى السلام الوطنى الجزائرى وغنت اللبنانية نجاح سلام «یا أحلى اسم فى الوجود يا مصر»، وغنى اللبنانى وديع الصافى «عظيمة يا مصر»، وغنت أم كلثوم «بغداد يا قلعة الأسود» وغنى السودانى عبدالكريم الكابلى «مصر يا أخت بلادى».

‎فى مطلع القرن الماضى تطوع عبد الوهاب عزام وعزيز المصرى للجهاد مع عمر المختار ورفاقه ضد الغزو الإيطالى لليبيا، وهب الضابط السودانى على عبداللطيف ضد الإنجليز الذين طالبوا بسحب الجيش المصرى من السودان.

‎فى الأربعينيات، تدفق المتطوعون من البلاد العربية للدفاع عن فلسطين؛ أحمد عبدالعزيز من مصر، وفوزى القاوقجى من سوريا وغيرهما من كل الأقطار العربية. فى الخمسينيات استشهد الضابط البحرى السورى جول جمال الذى كان فى مهمة تدريبية فى مصر لكنه أصر على المشاركة فى معركة البرلس التى هاجمت فيها لنشات الطوربيد المصرية البوارج الإنجليزية والفرنسية أثناء الاعتداء الثلاثى، وقام العمال السوريون بنسف خطوط أنابيب البترول لدعم مصر، وهتف المذيع السورى عبد الهادى بكار فى الميكروفون من دمشق هنا القاهرة عندما قصفت طائرات العدوان الثلاثى إذاعة مصر لإسكاتها، وفى سنة ١٩٦٠ تكاتف عمال الموانئ العربية وامتنعوا عن تفريغ السفن الأمريكية بعد أن امتنع عمال الموانئ الأمريكية عن إفراغ السفينة المصرية كليوباترا.

• • •

‎بعد مرور قرابة العشرين سنة لمواجهة الجيوش العربية الصهاينة، وقفت مصر وسوريا والأردن مجددا فى عام ١٩٦٧ ضد إسرائيل ورغم أن نتيجة المواجهة كانت لا تقل كارثية عن المواجهة الأولى إلا أنه رغم فداحة النتيجة لم تؤثر على اللحمة العربية، وظهر معدن العروبة فى قمة الخرطوم التى جرت بعد أسابيع من النكسة، وواجه العرب الموقف بصلابة ورفعوا شعار اللاءات الثلاثة «لا صلح، لا تفاوض، ولا اعتراف بإسرائيل»، ورفعت مصر شعار «ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة».

‎وقفت الدول العربية وقفة مشرفة مع دول المواجهة، وشاركت بقوات من السعودية والكويت والجزائر والسودان والعراق، بعضها رمزی، لكنها كانت رسالة إيجابية بأن العروبة رغم الكارثة لا تزال نابضة. لعل آخر وقفة عز كانت فى حرب 1973 بالمشاركات العربية العسكرية والسياسية والاقتصادية وبالبترول. لكن ما الذى حدث بعد ذلك وكيف تحولت الأمور ووصلنا إلى ما نحن فيه الآن؟

‎بدأت الشقوق فى الصف منذ الخلاف بين الملك فاروق والملك عبدالله أثناء حرب فلسطين، وبدأ الرتق يتسع بعد المواجهة بين النظم الثورية والنظم الملكية التقليدية المحافظة، وخاصة بين جمال عبدالناصر والملك حسين والملك فيصل والحبيب بورقيبة وصل إلى حد التلاسن والسباب مما نال من مكانة الجميع، ووصل الأمر إلى وصلة سباب قادها حافظ الأسد تجاه بعض قادة الخليج، الأمر الذى صار عالقا فى الصدرور وقد نسينا للأسف المقولة البليغة «إن النار بالعودين تزكى، وإن الحرب مبدأها كلام». زاد الأمر ضغثا على إبالة إعلام غير واعٍ يسكب الوقود على النيران ليزيدها اشتعالا متجاوزا كل حدود اللياقة بالتطاول على نساء أسر حاكمة عربية.

‎فى هذا التوقيت، ابتلى العرب برؤساء تجاوزوا کل حدود الحكمة واللياقة؛ صدام حسين - ومعمر القذافى - وعلى عبدالله صالح - وعمر البشير- أذاقوا شعوبهم كل صنوف التنكيل والعذاب حتى دمروا شعبوهم وبلادهم ووقفت المنظومة العربية تتفرج بسلبية حتى تدخل الغريب لإسقاطهم وتدمير بلادهم.

•••

‎لعل الحديث لا يكتمل عن الشرخ الذى أصاب العروبة دون ذكر ما تسبب فى أكبر شرخ وهو انفراد السادات بالذهاب إلى القدس والانفراد باتفاق السلام مع إسرائيل، دون أن يستمع إلى نصح من نصحوا بعدم الإفراط فى تقديم ضمانات لأمن إسرائيل التى لم تتعرض لهجوم واحد منذ قيامها .قدم لها الضمانات التى قيدت حرية حركتنا على أرضنا بدلا من طلب ضمانات منها وهى التى لم تتعرض لهجوم واحد من العرب منذ قيامها.

‎لعل الخطيئة الكبرى كانت فى عدم إصراره على تخلى الولايات المتحدة عن ضمان التفوق النوعى لإسرائيل فى السلاح الذى جعل لها اليد العليا عسكريا فى كل مواجهاتها.

•  •   •

‎كتبت هذه الكلمات رغم قسوتها على قلبى عسى أن يكون فيها درس تستفيد منه أجيال جديدة تنظر حولها وترى الدرك الذى انحدرنا إليه بعد انهيار وحدتنا وتشرذم جبهتنا، فأصبحنا نهبا لكل من كان يطمع فينا، لعلهم يستعيدون الوعى الذى فقدناه ويفيقون من الغفوة ويعيدون الحياة إلى جثة العرب بقدرة من الله الذى يُحيى العظام وهـى رمیم.

محمد عبدالمنعم الشاذلي عضو المجمع العلمي المصري
التعليقات