رغم أننى خضت عدة حروب واجهت فيها مواقف بالغة الخطورة، إلا أن أشد لحظات الرعب التى مررت بها فى حياتى وتسببت فى تسارع ضربات القلب وتصبب العرق بغزارة وأحيانا ارتجاف جسدى بشدة من الرعب كانت بالترتيب شهر أكتوبر من عام تسعة وخمسين كنا، أسرتى وأنا، وقد بلغت سبعة عشر عاما من العمر نقضى عطلة على سواحل الغردقة وتم الاتفاق بين المرحوم الوالد والمرحوم الدكتور /حامد جوهر ــ عالم البحار ومقدم البرنامج المحبوب عالم البحار بالتلفزيون ــ على القيام بنزهة بحرية إلى جزيرة الجفتون الكبيرة على مسافة أحد عشر كيلومترا من سواحل الغردقة على أن نتناول الغداء على الجزيرة ونعود مساء، وكان الجو صحوا والبحر هادئا وقام رئيس مركبية الغردقة بنقلنا للجزيرة بمركبته ذات الشراع والمحرك الواحد.
• • •
مضت ساعتان ونحن نمرح على الجزيرة نقتنى الأصداف البحرية المنتشرة على رمال الشاطئ بينما الوالد والوالدة يتجاذبان أطراف الحديث مع الدكتور جوهر تحت مظلة نصبت لهم مع قيام طاهٍ بإعداد وجبة الغداء لنشاهد ريس المركبية يجرى للدكتور جوهر ويطلب منه سرعة ركوب المركب للمغادرة وهو يشير بخوف اتجاه البحر لنلاحظ اسوداد السحب بشكل مفاجئ ما ينذر باقتراب عاصفة. فما كان منا إلا أن هرعنا جميعنا للمركب بعد تجميع تجهيزات الفسحة بارتباك شديد وتحرك المركب بقوة المحرك وبلا مقدمات وجدنا أنفسنا وسط أمواج ارتفاعها دون مبالغة حوالى الخمسة أمتار والمركب يتراقص بعنف ورذاذ الماء يغمرنا تماما، وتمكن ريس المركب بحرفنة الخبير من المرور وسط تجمع من الشعاب المرجانية والتى كانت عند هبوط المركب وسط الأمواج تبرز كالحراب، فقام الوالد باحتضان والدتى المرعوبة ثم أشار لى للاقتراب منه ليهمس فى أذنى أنه لا قدر الله لو غرق المركب فسيتولى مساعدة والدتى بينما أتولى أنا مساعدة شقيقتين، وأخى سامى يتولى مساعدة شقيقتين وكلنا نجيد السباحة.
• • •
عدت بعد إخطار سامى بتعليمات الوالد لأتشبث بسارى المركب والذى كان يترنح بعنف لليمين ولليسار، ووقع بصرى على ظل أسود يدور أسفل المركب بانتظام وحجمه بحجم المركب واستنتجت أنه سمكة القرش المفترسة فنظرت لوالدى وأشرت برأسى لأسفل فنظر لجانب المركب ليشاهد الظل الأسود ويستنتج صفته، فالتزمنا الصمت والهدوء حتى لا نثير خوف من معنا وبعد ساعتين عنيفتين مرعبتين وصلنا ميناء الغردقة بالسلامة بفضل الله تعالى.
• • •
الموقف الثانى بتاريخ السابع من أغسطس ١٩٦٥، كنت أتجاذب أطراف الحديث ظهرا وأنا برتبة ملازم مع ثلاثة جنود من قوات المظلات وكنا نقف أعلى جبل الحمرا الصخرى والمرتفع حوالى نصف كيلو باليمن على الحدود السعودية وكان الحر شديدا وفجأة اسودت السماء وبدأ هطول المطر الخفيف المصحوب بالصواعق والتى كانت تشق الشجر فى الوادى المجاور للجبل لتشتعل فيها النيران، وعلى مسافة متر واحد منى صخرة ضخمة ملساء استدرت لأرد على سؤال وجهه لى طبيب الكتيبة الجالس على مسافة أمتار منى والمستند على جيريكان مياه معدنية لأسمع صوت انفجار خلفى يصم الآذان وضوء ساطع خاطف حولى وانبطاح الجنود الثلاثة على الأرض وصرخة ألم من الطبيب والذى قفز لأعلى بسبب صعقة كهربائية من الجيريكان وأصبت بصداع بالغ القسوة، فاستدرت لأكتشف أن صاعقة شقت الصخرة الضخمة خلفى لنصفين وكأنها سكينة فى قالب زبدة والدخان الأسود يتصاعد من الشق ما دفعنا جميعا للهرولة لمغارة عميقة أعلى الجبل استخدمناها كملجأ فاستلقيت على الأرض لأنام بعمق حوالى ساعتين وأنا أرتجف من الرعب.
• • •
الموقف الثالث كان فى شهر مايو من عام ١٩٧٢، أقف منتصف النهار أمام سكنى بمعسكر القوات الخاصة الليبية على أطراف الصحراء المجاورة لمطار بنينا ببنغازى حيث كنت مكلفا بمأمورية كمعلم مظلات وبلغ مسامعى صوت طنين خافت وشاذ ما دفعنى إلى الالتفات حولى لاستطلاع مصدره ليقع بصرى على سحابة سوداء على ارتفاع متر واحد من الأرض قادمة من الصحراء عرضها يتعدى النصف كيلومتر تنكمش وتنبسط وترتفع وتهبط وتتحرك بسرعة كبيرة فى اتجاهى، وصوت الطنين يرتفع ويرتفع فاستنتجت أنها سحابة مُشكلة من ملايين النحل الإفريقى الصحراوى القاتل وبالطبع لو أحاطنى فسيكون الموت المؤكد من لسعاته والحمد لله كان باب سكنى مفتوحا فقفزت لداخله وركلت الباب بقدمى لينغلق الباب لحظة مرور السحابة الرهيبة والطنين المؤلم للأذن.
• • •
لحظات مرعبة حقا لن أنساها مدى حياتى.